المثقف الحائر ولعبة التقافز الى الخلف ! مقال لـ محمد البسفي 1-2

من “غمام” العقول إلى الوعي المختطف ! .. أزمة المثقف “تحت الطلب” !

( 1 )

بينما تُظهر أغلب الدراسات النقدية والتاريخية مدى حيرة المثقف العربي – والمصري في القلب منه – بحثًا عن كينونته وماهية دوره داخل مجتمعه منذ بداية العقود الأولى من القرن العشرين، حتى نجح أخيرًا بالكاد في العثور على موطأ قدم أتاحته له “قضية الاستقلال”.. فالمشهد التاريخي يزخر بجرائم الآلة العسكرية الغربية التي تستعمر وطنه بشكلٍ مباشر وتُمارس أسوأ أنواع التسّلط على حياة مجتمعه وأقسى الانتهاكات لسّيادته – كمواطن – وسّيادة وطنه المسّتلب، تلك الضغوط الخارجية والذاتية التي دفعته إلى المقاومة أو المهادنة مع سلطة المحتل؛ والنتيجة النهائية له أو هدفه الأساس هو توسعة هامشه المجتمعي وإكساب دوره أكبر قدر من الزخم المنشود.. حتى شهد المثقف العربي عصر الاستقلال والتحرر وانشغل مجتمعه المحيط بمنجزيهما متعمقًا في البحث عن ماهية التحرر ومعنى الاستقلال، متفرعًا المجتمع السياسي/الفكري العربي في الإجابة على تلك الأسئلة مستجيبًا لإيديولوجيات ومذاهب متعددة ومتنوعة، كان المثقف العربي وسط تلك الدوائر مهندسًا ومعّربًا وفي أحيانٍ ليست بالقصيرة منّظرًا.. منشغّلاً داخلها طوال الوقت بتوسعة هامشه الاجتماعي/الثقافي أمام السلطة المحلية؛ التي أجبرها الظرف التاريخي على “التمركز” بغية إعادة بناء “الدولة المحررة” بعيدًا عن المستعمر السابق.. هكذا كانت رغبتها وبهذا ظنت في تنفيذها لخطط تنميتها وبناء دولتها، ومن هنا تبلورت من جديد الجبهات داخل الدولة “المُحّررة” من النظام الحاكم المتمركز على ضفة من النهر تقابله جبهة أخرى من المثقفين تعتبر نفسها خارجة عليه في الضفة المقابلة، وعلى مدار سنوات طوال لم يهدأ خلالها المثقف العربي – والمصري نموذجًا – عن ممارسة لعبته في القفز عبر الشواطيء المقابلة مراوحًا بين مواقعه الجبهوية مع أو ضد النظام الحاكم حسّب الطلب والحاجة مهمومًا بتوسعة مساحته من مجرد هامش إلى مساحة معتبرة ليس في المتن الاجتماعي فحسّب بل على رأس قمته؛ فهو القائد والمرشد والحامي والرقيب، حتى مع تغييّر مواقعه من النظام في “لعبة” التقافز الأثيرة لديه.. فالمثقف العربي انبثق من طبقة متوسطة “مضغوطة” في بداية تكوينها تحت ثقل طبقات شبه إقطاعية ونسخة باهتة من ارستقراطية تتغذى على فتات المستعمر وحليب حماية موضعها على الخريطة الاجتماعية في صفقة متزنة؛ يُحافظ المحتل فيها ويمول ويحمي وهي ترشده على الخيرات وتُسلم له المقدرات وتروج لدعواه وتُشّرعن أدواته وأفكاره.. وبنفس مميزات تلك الصفقة شجع المستعمر وغذى طبقة وسطى تقوم بلعب ذات الدور المستهلك لصناعاته وأفكاره، فتزاوج المستعمر والطبقة الوسطى داخل المجتمعات المستعمرة – بشكلٍ مباشر أو غير مباشر – هو تزاوج العُملة الواحدة حتى اليوم؛ مع اختلاف الآلة الاستعمارية وأساليبها ورغم تغير الظرف التاريخي ونمط الإنتاج للرأسمالية العالمية.

 

( 2 )

وإن كانت هزيمة حزيران/يونيو 1967 تُمثل انهيارًا لكثير من الأفكار أو “التوهمات” – وهو التعبير الأدق – لدى المثقف البرجوازي، ومن ضمنها معادلة عصر النهضة التي تمزج بين التراث والعصر أو بين الأصالة والتحديث، كما يحلو لذاك المثقف تسّميتها في توفيقّاته التنظيرية غير الجذرية.. فإن الهزيمة العسكرية هي في الحقيقة هزيمة مباشرة لمجمل الصيغة الفكرية للطبقة الوسطى ذاتها وأطروحاتها البراغماتية وبالتالي هزيمة للطبقة الوسطى نفسها؛ كما يذهب “غالي شكري” في تحليله لكامل فكر ومنتوج “توفيق الحكيم” الإبداعي والفكري، كنموذج لمثقف من أبناء ثورة 1919 ليبرالية الهوى والهدف والتأثير وسطية الجغرافيا الاجتماعية، (كما أراد المثقف الليبرالي/الوسطي تصنيف انتفاضة عارمة كانت قاعدتها المؤثرة والمحركة طبقة متسّعة من أبناء الفلاحين وصغار الأجراء؛ تم إهمال دورها وطمس بطولاتها الدموية، سواء في مواجهة المحتل الإنجليزي أو في وجه كبار الملاك والارستقراطيين، في تأريخ المدونات الكلاسيكية التلفيقية للمثقف الليبرالي/الوسطي).

الطبقة الوسطى التي يستعين وعيها بالتاريخ للخروج على التاريخ – كما يرى شكري – وبالتالي اللجوء إلى النسّبي التماسًا للمطلق في تحليل وضعها المتردي في أوقات الأزمات والمحِن؛ سواء تأزمها التأريخي من مستعمر مباشر أو غير مباشر أو تأزمها الطبقي في عدم توافر شروط ترقيها وتقاسمها شروط الحكم وامتيازاته.. فنجد الحكيم – كمثال للمفكر النخبوي – يكتب في تشرين ثان/نوفمبر من العام 1948: “إن هذا الشعب الذي نحسّبه جاهلاً يعلم أشياء كثيرة، ولكنه يعلمها بقلبه لا بعقله. إن الحكمة العُليا في دمه ولا يعلم، والقوة في نفسه ولا يعلم.. هذا شعب قديم.. جّيء بفلاح من هؤلاء وأخرج قلبه، تجد فيه رواسّب عشرة آلاف سنة، من تجارب ومعرفة رُسّب بعضها فوق بعضٍ وهو لا يدري.. نعم، هو يجهل ذلك، ولكن هناك لحظات حرجة تخرج فيها هذه المعرفة وهذه التجاريب فتُسّعفه وهو لا يعلم من أين جاءته.. هذا يُفسر لنا تلك اللحظات من التاريخ التي فيها مصر تطفر طفرة مدهشة في قليل من الوقت وتأتي بالأعاجيب في طرفة عين ؟ كيف تستطيع ذلك إن لم تكن هي تجاريب الماضي قد صارت في نفسها مصير الغريزة ؟” (1).

 

 

اترك تعليقا

NEW