ابراهيم جابر ابراهيم يهدي ” السكة ” .. من يرث المدن ؟

 السكة –  كتب ابراهيم جابر – خاص وحصري 

لم ينشغل المصريون كثيراً بالسؤال، وافترضوا بخفّة دمهم الهائلة، أن من بنى مصر «كان بالأصل حلواني»، ثم أضافوا مفسّرين «علشان كده مصر يا أولاد.. حلوة الحلوات» !

وعموماً لا تنشغل المدن بمن بناها، لكنّها مثل النساء؛ كلّما امتلكت الشجاعة أكثر.. أفصحت عن «تاريخها العاطفي» !

والمقصود هنا بالبَنّاء ليس بالضرورة «الأب البيولوجي» للمدينة، فهو لا يحتاج إلى ذريعة يسوقها كي يُسجّلها باسمه. كما أنه لا يحتاج إلى شهادة بما فعل.. فذلك أقلّ مهامّه شأناً.. أن يفعل ما يفعله طائرٌ صغير، يُعدّ عشّه للسكن!

لكن من يبني المدينة، أي مدينة، كبُنية اجتماعية ومنظومة إنسانية وثقافية هو ذلك الذي نهضت المدينة على كتفيه معرفياً وحضارياً وثقافياً.

من يبني المدينة هو من يعطيها خلاصات معرفته وخبرته وتجاربه، ينعجن فيها، ويصير جزءا من هويتها، وتصير هي كلّ هويّته.

لم يكن الرئيس الأميركي أوباما سوى مهاجر إفريقي فقير أستاذه في الجامعة مهاجر اسمه ادوارد سعيد، وقبل سنوات قليلة تنافس على رئاسة السلفادور مرشحان هما بالأصل مسيحيان فلسطينيان.. وفاز أحدهما!

وها هو اسم مدريد الإسبانية ارتبط باسم البرتغالي رونالدو.. أكثر مما هو لصيق باسم ملك اسبانيا! والذي نشر اسم برشلونة في الأرض هو فتى أرجنتيني اسمه ميسي.

وفي أوروبا مسؤولون كبار وقادة جيش ورؤساء حكومات جاؤوا مهاجرين من أقاصي افريقيا وآسيا الفقيرتين، ليس آخرهم شاب هندي يرأس الآن حكومة بريطانيا العظمى!

المدن الحديثة والعواصم الكبيرة كلها بناها مهاجرون، جاؤوا من مدينيات جاهزة وناجزة إلى مكان في طور الظهور والتشكّل.

وهذا لا يعيب المدن، ولا ينتقص من تاريخيتها.

فالمدن تعيش أطول من بُناتها، ومن مدمريها، وها هو (نيرون مات. ولم تمت روما) كما قال درويش.

وحين تنجز المدينة، أي مدينة، تاريخها، وعقدها الاجتماعي، لا يتوقف تاريخها كثيراً عند الهويات. حيث يصير، أو يفترض أن يصير، للمدينة طابعها الكوسموبوليتي، أو مُواطَنَتها الجامعة، تلك القادرة على استيعاب وهضم كل الثقافات والهويّات الفرعية، وإعادة إنتاجها على نحوٍ متصالح ومُرحِّب، من دون أن تلفظ شيئاً منها أو تتنكَّر لإحداها.. فهي أوسع وأرحب وأكثر شمولية من مكوّناتها.

وهي ثقافة مدينية متسامحة، لا تختبئ من قرّاء الانثروبولوجيا، كما يختبئ التاجر من جابي الضرائب، شرطها الوحيد هو الحب وفضيلتها هي الامتنان.

لا تطرد أحداً من «جنّتها»، ولا تتعالى على أحد، وتعترف بـ«بائع الفستق» و«القَمّاش» و«الزارع» و«تاجر الحبوب» تماماً كما تعترف بـ«الصرّاف» الذي وضع رأسماله رهن نموّها وصيرورتها، و«العسكري» الذي سهر يحرسها، والمفكّر الذي صاغ مشروعها المعرفي.

أبناء المدينة، أيّ مدينة، هم آباؤها أيضا، يتشكّل وعيها الجمعي، من حصيلة ما أنجزوه على صعيد فردي، والمدينة وريثةٌ دائمةٌ وجاهزة لمن يغادر من أفرادها.. لكن لا فرد يرث المدينة. أو يحملها على ظهره في الليل حين يغادر.. أو يموت!

المحصّلة أن «الانثروبولوجيا» في النهاية هي الهويّة الأكثر ضرورية للناس في حياتهم، والأهمّ والأكثر التصاقاً باليوميّ والمُعاش من «الأركيولوجيا».. وكلاهما للمفارقة تصير ضحية «الأيديولوجيا» حين ينشبُ صراع غير أصيل وغير متسامح بين الهويّات الصغيرة…

جاء في الإنجيل (إن لم يبنِ الربُّ البيت فباطلاً يتعب البناؤون. إن لم يحرس الربُّ البيت فباطلاً يتعب الحرّاس)

اترك تعليقا

NEW