بعد أن نتوقف قليلًا، نستعرض كتب “أبو علي”. أختار أنا كل أسبوع كتابًا جديدًا استعيره من “أبو علي” لقراءته مقابل قروش قليلة، فزميلاي ماجد وسامي لم يكونا من عشاق القراءة مثلي.
كان “أبو علي” قد سنَّ طريقة بديعة لتشجيع الفقراء أمثالي على القراءة، بأن يختار نسخة من كل كتاب جديد، يعيره للقراء الفقراء مقابل قروش قليلة، وخلال شهرين أو ثلاثة يكون قد استرد ثمن الكتاب، وربح من إعارته مبالغ إضافية.
بعد كشك “ابو علي” نمر من أمام البنك العربي – الإدارة العامة القديمة قبل نقلها إلى الشميساني منتصف ثمانينات القرن الماضي -، ومن ثم نمر من أمام محلات عادية لم تكن تثير اهتمامنا، فهي لبيع القماش أو الملابس، إضافة إلى صيدلية، اعتقد أنها ما زالت قائمة حتى اليوم، إلى أن نصل إلى الإشارة الضوئية التي تقع أول شارع السلط، فنقطع الشارع إلى الجهة المقابلة، حيث نجد زقاق مطعم هاشم، الذي كان، وما زال أحد معالم عمان، وكنت وزملاء المدرسة والمقاهي، من حين إلى الآخر، نتناول فيه الحمص والفول والفلافل.
ظل مطعم هاشم مقصدي على مدى خمسة وأربعين عامًا، فكلما شعرت بالجوع، وكنت بوسط البلد، فإن الخيار الأمثل بالنسبة لي، ولكثيرين غيري، تناول الفول والحمص من عند هاشم، لكن تتسع الخيارات إذا ما توفرت مبالغ تفوق قيمة وجبة الحمص والفول، حينذاك فإن مروحة الخيارات تتسع، تبعًا لقيمة المتوفر من مال، تبدأ بسندويشات “أبو عيسى” أو زكي، أو سندويشات “سناك 22″، ولا تنتهي بتناول وجبة منسف من عند مطعم القدس.
كانت وجبة الحمص أوالفول في سبعينات القرن الماضي عند مطعم هاشم وعند غيره من المطاعم الشعبية المشابهة بخمسة قروش، أصبحت في الثمانينات بربع دينار، وفي التسعينات بنصف دينار، وهي اليوم بدينار، بينما كانت وجبة المنسف في مطعم القدس بالسبعينات بدينارين، وفي بعض المطاعم أقل من ذلك، أصبحت في الثمانينات أكثر من ثلاثة دنانير، وفي التسعينات بخمسة دنانير، واليوم تبلغ قيمة وجبة المنسف في مطعم القدس سبعة دنانير.
لفت نظري عام 1978 أحد عمال مطعم هاشم المصريين، كان شابًا وسيمًا، دائم الابتسام، يتكلم قليلًا، لكن كلامه القليل كان ذا دلالات عميقة ومعانٍ غير مباشرة. وفي أحد الأيام الماطرة قررت أنا وزملاي ماجد وسامي أن نتناول الحمص والفول من عند مطعم هاشم، فدلفنا إليه، وجلسنا، وإذا بحسين، وهو اسم الشاب المصري، الذي اطلقت عليه تعبير “النادل المثقف” يسألنا عما نريد تناوله، بقوله: ماذا تريدان أن تتناولوا. قالها بلغة عربية صحيحة. فطلبنا ما نريده.
أحضر “النادل المثقف” ما طلبناه، وكان من بين ما طلبناه “سندويشة” فلافل لسامي، إذ إنه لم يكن جائعًا، فاكتفى بهذه “السندويشة”. قال “النادل المثقف”: هذا الحمص وهذا الفول وهذا الفلافل وهذا “الشاطر والمشطور وما بينهما”، فطلبت منه إعادة ما قاله، فما قاله لم أفهمه، فأعاد القول: الشاطر والمشطور وما بينهما، فسألته: ما تقصد، أجاب، وهو يشير إلى “السندويشة”: هذا هو الشاطر والمشطور وما بينهما، فسألته: من أين تعرف كل هذا وأنت مجرد نادل يعمل في مطعم هاشم، فأجاب إنه حاصل على بكالوريوس أدب عربي، وهو إضافة إلى ذلك شاعر، فطلبت منه أن يقول لنا بعضًا من أشعاره، فقال: بعد قليل. بعد دقائق، عاد إلينا “النادل المثقف”، وألقى علينا بعض أشعاره بسرعة، وغادر.
أصبح حسين أو “النادل المثقف” أو الشاعر صديقًا لنا، أخذنا نرتاد مطعم هاشم في كثير من الأحيان لنسمع أشعاره. لكن أبرز ما أضافه حسين لي أنه عرفني على اثنين من أبرز شعراء مصر في ستينات وسبعينات القرن الماضي، وهما أمل دنقل ونجيب سرور، فأخذت أنهل من أشعارهما ما شاء لي أن أنهل، بخصة أنهما عدا في تلك الفترة، إضافة إلى الشاعر الشعبي أحمد فؤاد نجم، من أبرز معارضي سياسات الرئيس المصري أنور السادات، فحفظت كثيرًا من اشعارهما، ولا سيما قصيدة دنقل “لا تصالح”، وأخذت ألقيها بمناسبة ومن دون مناسبة، بخاصة المقطع الثاني:
لا تصالح على الدم.. حتى بدم!
لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ
أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟
أقلب الغريب كقلب أخيك؟!
أعيناه عينا أخيك؟!
وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك
بيدٍ سيفها أثْكَلك؟
سيقولون:
جئناك كي تحقن الدم..
جئناك. كن يا أمير الحكم
سيقولون:
ها نحن أبناء عم.
قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك
واغرس السيفَ في جبهة الصحراء
إلى أن يجيب العدم
إنني كنت لك
فارسًا،
وأخًا،
وأبًا،
ومَلِك!
وفي أحد أيام عام 1979، وأنا في الصف الثالث الثانوي، أحضر لي حسين ديوان نجيب سرور “برتكولات حكماء ريش”، وقال لي إن “ريش” هو مقهى المثقفين في القاهرة، وأهداه لي، وهو أول كتاب أتلقاه هدية، وظلت كلمات الإهداء التي كتبها حاضرة في ذهني حتى اللحظة، لقد كتب: الشعر كالنار، إن لم تحترق بالكلمة فأنت لست بشاعر. وأنا للأمانة، على الرغم من حبي الشعر، لم أحترق بالكلمات بعد، لذا لم أصبح شاعرًا.
ظل ديوان نجيب سرور في حوزتي إلى ما قبل سبع سنوات، فقدغرق مع بعض محتويات أخرى في منزل صديق، كان قد شاهد الديوان عندي، فطلب استعارته، لكن منزله بعد أيام غرق، ففي شهر تشرين الثاني من عام 2016 أمطرت السماء مدرارًا، وغرقت كثير من المنازل الموجودة تحت مستوى الشوارع، ومنها منزل صديقي.