المرأة والرجل .. والواحدية الإنسانية .. مقال لـ ندرة اليازجي 2-2
- Alsekeh Editor
- 2 أبريل، 2023
- محطة المرأة
- 0 Comments
السكة – محطة المرأة
يتمثَّل الإنسان في قطبيه: الرجل والمرأة؛ ويصل الحب والمحبة بين هذين القطبين. والجنس هو محبة الإنسان لنفسه، ذلك لأن الإنسان – كلَّ إنسان – رجلٌ وامرأة معًا. وتُعتبَر هذه المحبة الصلةَ بين قطبي الحياة لتوليد الحياة أو للتعبير عنها. وهكذا تتولد الحياةُ وتتحقق في الوصال الجنسي الذي يتم بين الرجل والمرأة على نحو حبٍّ ومحبة.
تشير هذه الحقيقة إلى أن وجود الإنسان وتحقيق ولادته عن طريق الجنس لم يكن وليد نزوة طارئة أو لذة عابرة. ونحن نعتقد أن ثمة طاقةً ما تفعل في الإنسان، كأية طاقة حيوية أخرى كامنة في جسده، تجعله يقوم بواجب معيَّن عن طريق عضو من الأعضاء. وفي الجنس، تتمثل هذه الطاقة في انجذاب بين قطبي الإنسان لكي تتحقق فعلاً، أي تنتقل من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل. ويتمثل الجنس في هذا الانجذاب الحاصل بين قطبي الإنسان، فيكون اندفاعًا وانفعالاً أو نزوة أو لذة أو هياجًا عندما يضل عن غايته، إذ لا يفعل فيه الوعيُ والإرادة، فينقاد إلى الأنا ويعبِّر عنها. وتخلو الحياة الجنسية عندئذٍ من فعل المحبة، وتعبِّر عن الأنا وتلقائيتها وتأثرها اللاواعي بالجانب المادي وحده.
وفي هذه الحال، ينقاد الإنسان إلى هذه التلقائية انقيادًا أعمى أشد من انقياد الحيوان إلى دافعه الغريزي. فالحيوان لا يمارس الجنس إلا في سبيل الإنجاب، ولا يقترب ذكرٌ من أنثاه عمومًا ما لم تسمح هي بذلك الاقتراب وفق نواميس طبيعية منظمة غاية التنظيم؛ فتكون عملية الجنس منظمة عند الحيوان. وبما أن هذه العملية غير منظمة في الإنسان، فإنه يمثل درجة أحط من الحيوان عندما يعبِّر عن انفعال المادة أو الأنا، أي عندما يفتقر إلى قاعدة وعي. فلو كان الجنس في الإنسان منظَّمًا، كما هو لدى الحيوان، لما كان إنسانًا. فليس تنظيمه في الحيوان سوى دافع غريزي وعدم تنظيمه في الإنسان إلا حرية.
يُعَدُّ الجنس في الإنسان تعبيرًا عن فعل الكيان ككل. لذا يتأثر الجنس في الإنسان بعوامل نفسية واجتماعية. فهو، كما قال پول شوشار، الاختصاصي الفرنسي في فسيولوجيا الجهاز العصبي، “جنس نفسي”.
تقودنا هذه المقدمة الوجيزة إلى بحث موضوع الدافع الغريزي والدافع الحيوي الواعي.
فما الغريزة؟ وما الدافع؟ وما الفارق بينهما؟
نحن نعلم أن ولادة الإنسان تعني وجود الدافع والتلقائية. فالطفل يطلب الطعام والماء منذ ولادته، وذلك على الرغم من عدم معرفته بما يطلب. ولذا نقول إن الدوافع تولد مع الإنسان. وكما يبدو، فإن الدوافع تتنوع، ويتدرَّج ظهورُها على التوالي؛ فهي إذًا كامنة في صميم الكائن الحي. فهل هي تتفق مع العقل أم أنها تتناقض معه؟
يهدف كلُّ دافع إلى تحقيق غاية. وتُعَدُّ كلُّ غاية في جوهرها فعلاً عقليًّا؛ لذا يتناسب الدافع مع العقل والوعي. فالدافع طاقة كامنة في الإنسان، تنسجم مع العقل وتعبِّر عنه إنْ هي تحققت بمقتضى الغاية التي من أجلها وُجِدَتْ. وهكذا يكون الدافع عقلاً متى حقَّق الغاية من وجوده.
في المقابل، تُعَدُّ الغريزةُ في الحيوان عقلاً متدنِّيًا؛ إذ لا تتفق هذه الغريزة مع العقل الإنساني. ولقد أظهر العالِم الفرنسي تِلار دُه شاردان أن العقل كامن في كلِّ شيء، ويتدرَّج من الأدنى إلى الأعلى في تفتح مستمر. ولما كان يُعرَّف به بأنه درجة عقلية دنيا في الحيوان، فإننا ندعوه غريزة أو تلقائية. فالغريزة طاقة لا تعقل ذاتها، بينما الدافع طاقة تعقل ذاتها، لأنه يحقق ذاته، يحقق غاية؛ فهو عقل متى أدرك ووعى.
وفي هذا المجال، نقدم أمثلة على الدافع والغريزة: العاطفة دافع، لكن انحرافها يشير إلى الغريزة أو الرغبة؛ والعقل لا يعي موضوعه لحظةَ ينحرف الدافعُ إلى غريزة. والطعام دافع، لكن انحرافه يسمَّى شهوة أو شهية، أي غريزة. والشجاعة دافع، لكن انحرافها انفعال وتمرد ورعونة. والجنس دافع، لكن انحرافه غريزة تفقد غايتها وعقلانيتها. لذا كانت الغريزة سلوكًا يجري وفق نواميس محددة فطريًّا؛ فتكون عقلاً أدنى، وتلقائية لا تعي ذاتها.
الجنس الإنساني فريد من نوعه، ذلك لأنه يتجاوز الحاجة البيولوجية. وقد اتفق الكثير من العلماء والحكماء على أنه ليس في الإنسان حاجات بيولوجية صرف. لذا لا نستطيع تقسيم الإنسان أو تجزئته إلى كيانين متباعدين: نفسي وجسدي. فالطعام والجنس، مثلاً، حاجتان نفسيتان–جسديتان. الطعام في الإنسان يتحول إلى أفكار؛ ولكنه في الحيوان أو النبات لا يتخطَّى حدود الغذاء. والإنسان لا يحيا بالطعام وحده، وبالتالي لا يفكر من خلاله فقط؛ فالموسيقى والقراءة والتأمل إلخ عوامل هامة في تشكيل أفكاره. لذلك يُعتبَر الطعام حاجة بيولوجية–نفسية. والجنس في الإنسان يتحول إلى عواطف ومشاعر وأفكار ومُثُل وتصورات، تشيع جميعًا في الإنسان لترفعه وتسمو به إلى مدارك عليا. وتُعتبَر هذه كلها عوامل نفسية.
إن تسامي الإنسان على الحيوان يشير إلى أن الجنس أكثر من حاجة بيولوجية فقط. وبما أن الجنس يقع فيما وراء اللذة، فإنه يتجاوز الغريزة إلى حقول الشعور والعاطفة والفكر. ولما كانت العوامل النفسية والتصورية تلعب دورًا كبيرًا في الجنس الإنساني، فإننا نقول بأنه إخفاق تام عندما نسعى إليه كغريزة أو كإشباع كمِّي محض.
وهكذا نرى أن الجنس عند الإنسان يختلف عن الجنس عند الحيوان، وذلك لأن تطور الحياة من الأدنى إلى الأعلى، من الغريزة – وهي عقل متدنٍّ – إلى العقل الواعي، يواكبه تطورٌ في الجنس. ونقصد بهذا التطور تطورًا من الصعيد البيولوجي إلى الصعيد الفكري والنفسي. وهذا ما يؤكد عليه كتاب الجنس ومعناه الإنساني لمؤلِّفه كوستي بندلي. فالإنسان، كما نرى وكما يرى هذا المؤلِّف المبدع، يتأرجح بين الغريزة وأسمى القيم؛ فهو يحيا في الدافع كما يحيا في الوجدان. ومما لا شك فيه أن الجنس يشير إلى حقيقتين تظهر من خلالهما عظمةُ الكائن الحي في نزوعه نحو الكمال.
فالجنس تعبير عن واقعين اثنين:
1. نزوع إلى اتصال حميمي بالآخر، لأنه يقيم علاقة عاطفية مع هذا الآخر، ويعبِّر عن حقيقة وجودية ما. فهو، إذن، حركة تدفع إلى لقاء الآخر من أجل اكتمال الكائن الحي.
2. تعبير عن الشخصية الإنسانية ككل: فالرغبة الجنسية تتأثر بعوامل عديدة، وتختلف كليًّا عن العوامل الفسيولوجية البحتة، نذكر منها عوامل الخيال والعاطفة والشعور بالغير وبالقيمة وسائر العوامل النفسية. لذا لا نستطيع القول إن الجنس مجرَّد حاجة بيولوجية، ذلك لأن الانفراج العضوي البحت – ونعني العلاقة الجنسية – يترك شعورًا بعدم الارتياح. ولكن هذا الشعور يضمحل متى اقترنت العلاقة بالعوامل النفسية الأخرى. فالجنس لقاء مع الآخر يعبِّر عن الكيان الواحد.
تشير هذه العبارة الأخيرة إلى أن الجنس يجعل من المرأة والرجل كيانًا واحدًا؛ فمتى تم وصالٌ بينهما تحقَّق الكيان الواحد الكامن في كليهما. وفي هذا الصدد يجب علينا أن نذكر ما قالتْه الأساطير الأولى – ومازال العلم يردِّده – من أن الإنسان الأول كان واحديَّ الجنس، كامل الجنس، لأنه لم يكن ذكرًا أو أنثى، بل أندروجينوس Androgynous أو هرمافروديتوس Hermaphrodite، لكنه انفصم إلى وجودين متكاملين، إلى قطبين تمثَّلا بالرجل والمرأة. ولا يعود هذا الكيان إلى ما كان عليه من وحدة سابقة إلا بهذا الوصال الذي يتم بين قطبي الحياة: الرجل والمرأة. ففي البدء كان الرجل والمرأة جسدًا واحدًا. ولا تتحقق سرَّانية هذا الجسد الواحد إلا بالزواج، أي بتحقيق الطاقة الحيوية الشاملة.
يؤسفنا أن أقول إن اللاهوت التقليدي وبعض الفلسفات مسؤولة عن فصم كيان الإنسان وجعلِه اثنين: روحًا وجسدًا. الإنسان في الأصل كيان واحد قائم بذاته: الرجل إنسان تام، والمرأة إنسان تام. والمادة والروح كذلك حقيقة واحدة، ذلك لأن الإنسان يعجز عن القول كيف يكون فعله، جسديًّا أم روحيًّا. لكننا في الزواج نجد حقيقة مطلقة تشير إلى تناقض ظاهري وإلى انسجام داخلي. وتذكر بعض الآراء المثالية القديمة – الباطنية بصفة خاصة – أن الرجل يمثل الروح وأن المرأة تمثل المادة. وفي هذا التعبير لا يُساء إلى حقيقة المرأة، لأن فكرة المرأة–المادة تشير إلى المبدأ الأول للوجود، الهيولى الأولى أو الجوهر، الذي هو المادة الأولى الطاهرة النقية قبل تعيُّنها، حاملة الحياة والروح، التي يُرمَز إليها في الأساطير بمبدأ الأرض–الأم Gaia.