من ايحاءات رمضان .. مكانة بلال بن رباح!
- Alsekeh Editor
- 5 أبريل، 2023
- محطة المقالات
- 0 Comments
السكة – محطة المقالات – كتب أسامة الرحيمي – كان بلال رجلًا قويا شأن الموالي الأفارقة لدى سادة العرب، قبل نزول الرسالة. وكان العرب يفضلونهم لقدرتهم على احتمال مشقّات الرعيّ وقسوة العمل بصبر وإخلاص، وبلا أجرٍ تقريبا، ويعاملونهم بعنصرية فجّة.
وأظهر الإسلام إيمانه القوي بالله، وإخلاصه لرسوله، وتبدل ولاءه من عبد مُكره لسيد ظالم، إلى محب تعلق وجدانه برسول الله، فعاش ومات لا يرجو إلا جواره حيَّا وميتاً. فلم تعد له علاقة بالدنيا إلا عبر محبّته للنبي الكريم. ووصفه العقاد: «بشرة سوداء، على طبع صاف، يرى الناس وجوه أعمالهم فيه».!
ولرقته إنسانيا، كان يحزن كلما خالفته زوجته على ما تُكنَّه له من محبة، فيترك لها البيت غاضبا فيلقاه الرسول، ويلمح ما به فيصحبه إلى بيته ليقول لها: «ما حدّثك عني بلال فقد صدق. بلال لا يكذب، فلا تُغضبي بلالًا».
ولعلم النبي الكريم بخصال بلال، ائتمنه على مال المسلمين، وعلى طعامه ومؤنته وشخصه، واستصحبه في غزواته، وحِجّته، فلم يلازمه أحدٌ كما لازمه، وكان يقيم الصلاة، ويُظِلّ النبي من هجير الصيف بستار، وركب ناقة النبي «القصواء» التي نادرا ما ركبها غير الرسول الكريم، وكان أحد ثلاثة دخلوا معه الكعبة يوم فتح مكة. وهم «عثمان بن طلحة» حامل مفاتيحها، ومولى الرسول «أسامة بن زيد»، وبلال. وحين دُفن رسول الله، حمل بلال القِربة وبلّل قبره الشريف بالماء.
وعن سالم بن أبي الجعد، عن رجل، قال: سمعت رسول الله يقول: «يا بلال. أقم الصلاة. أرِحْنَا بها». (رواه أبو داود). لذا قال النبي الكريم: «..وجُعِلَت قُرَّة عيني في الصَّلاة». وكان بلال قطعاً أول من رفع نداء الصلاة!
قبل إسلامه كان عبداً يرعى غنم «أميّة بن خلف»، وأجره بضع تمرات يأخذها نهاية كل يوم. يزدَرِدُها، ثم ينام على الأرض. ويصحو قبل تباشير الصباح ليمضي بالإبل خلف الكلأ. ووسط تلك المواجع والحيرة النفسية، سمع بظهور نبي في مكة، يدعو الناس لعبادة إله واحد، ويقول: لا فضل لأبيض على أسود إلا بالتقوى. و«الناس سواسية». فهزّت تلك المعاني وجدانه، ودفعه شغفه لمقابلة النبي، فسمع ما لم يسمعه من قبل. وأحس بإنسانيته، ونطق الشهادتين بين يدي رسول الله، وراح ينهل منه تعاليم الإسلام. وحين علم «أمية بن خلف» بإسلام عبده الحبشي، غضب بشدّة. فكيف لعبده اعتناق دین محمد. وهو ألدّ خصومه، وممن توعدوا الرسول الكريم. فأنذره الرسول بالقتل.
ذات ظهيرة اقتادوا بلال مقيدا بالسلاسل وطرحوه فوق الحصى الملتهب، ووضع عبيد أشداء صخرة ضخمة على صدره فكتمت أنفاسه وسحقت ضلوعه. وشواه الصهد، ونهشته الآلام المبرحة. وأدمى «أمية بن خلف» جسده بالسوط، وهو يطالبه بسبّ محمد، ونكوصه عن دينه. فهانت آلام بلال أمام مطالب أميَّة، واستجمع ما تبقى من وهن صوته ليقول: «أحدٌ أحدّ». فانفجر غضب أميّة وضاعف له العذاب، فأوشك أن يهلكه، وتكالب عليه سادة الظلم. قل: «ربِّي اللات والعزى»، و:«اذكر محمدا بسوء». فلم ينطق بغير:«أحدٌ أحدّ». فأسلمهم هو لانهيار عصبيّ.
ووسط امعانهم بتعذيبه، عرض «أبو بكر الصدِّيق»، شراء بلال بثمن يرضيهم، فرحب أميّة بذلك تخلصاً من عبده الآبق، ورأى ثمنه أهم. وأعتق «أبو بكر» بلالاً، فالتحق بجوار رسول الله، يصلي معه، ويحفظ القرآن، ويستلهم تعاليم الإسلام. وحين أذن الرسول بالهجرة إلى المدينة، سارع بلال بالهرب من قُساة مكة.
وهناك. أسس الرسول دولته، واتسعت رقعة المدينة بوفود المهاجرين فكان لابد من وسيلة تجمع المسلمين من أنحائها للصلاة، وجاء الأمر برفع الآذان عند كل صلاة. فاختار النبي بلالا ليدعو الناس للصلاة بصوته العذب. واعتاد صعود أعلى بيت بجوار مسجد الرسول، ليطلق صوته، ويصير أجمل نداء يومي في حياة المسلمين.
وتزايد حب الرسول لبلال حتى وصفه بأنه: «رجل من أهل الجنة». فلم تُصِبه المكانة الرفيعة التي خصّه بها رسول الله بغرور، ولم تحرف سويته، رغم كل ما عاناه في العبودية، وظل يردد: «أنا الحبشي الذي كان بالأمس عبدا، كنت ضالا فهداني الله، وعبدا فأعتقني الله». وكان يستحي من مدح الناس لفضله في صدر الإسلام، فيقول: «إنما أنا رجل كنت بالأمس عبدًا».
وفي بدر، أول غزوة شنَّها مشركو قریش على المسلمين، خرج المسلمون لملاقاة من أذاقوهم العذاب في مكة. وسبقهم بلال برفع مقولته الشهيرة: «أحدٌ أحدْ» شعارا له يوم بدر، ورددها طوال الوقت. وواتته فرصة الثأر من «أمية ابن خلف» خلال المعركة حين رأى «عبد الرحمن بن عوف» يقود أُميّة وابنه أسرى، فتشجّع لعلمه بإنذار الرسول أميّة بالقتل، واعتبر نفسه الأحقّ بذلك القصاص، فصاح بأعلى صوته: «رأس الكفر أمية بن خلف. لا نجوت إن نجا». ولم يحمه دفاع عبد الرحمن بن عوف. وظل يكرر: «لا نجوت إن نجا.. لا نجوت إن نجا». فتحلّقهم جمع كبير، وضرب أحدهم «ابن أمية» فصرعه، وصرخ أمية فزعا، فقال له عبد الرحمن بن عوف: «انج بنفسك ولا نجاء بك! فو الله ما أُغني عنك شيئًا». فضربه المقاتلون بسيوفهم، فقضى بين يدي بلال، ليُشفِي صدره. وهنأه أبو بكر: «..لقد أدركت ثأرك يا بلالُ»
ويوم فتح مكة الجلل، وقف الرسول الكريم على باب الكعبة، وسأل: «أين بلال؟.. نادوا لي بلال». وأضاف: «والله يا قريش لازلت أذكر اليوم الذي كنتم تعذبون فيه بلالاً عند باب الكعبة». فلما حضر، قال الرسول الكريم: «ادخل يا بلال، فلا يصلّينّ معي أحدٌ في جوف الكعبة إلا أنت»!. تكريما وتشريفا لبلال ورداً لاعتباره بما ناله من عذاب. وبعد الصلاة في جوف الكعبة، قال الرسول: «تعال فاصعد على ظهرها»، وقال له: «يا بلال، والله الذي لا إله غيره، إن هذه الكعبة عند الله لعظيمة، ووالله إنك اليوم عند الله أعظم وأشرف منها». فأذّن بلال الحبشي رضي الله عنه من فوق الكعبة في جيش يضم كبار الصحابة وسادة العرب، قوامه عشرة آلاف مسلم. ورأى سادة قريش بلالا يرفع الآذان من فوق الكعبة، في أعز مكان ومكانة، وهم أذلاء، تكريما لمن تحمّل الأذى في سبيل الله.
وبعد وفاة الرسول ترك «بلال بن رباح» الآذان لغيره حتى لا ينقص عهد وفاءه. وأحيانا كان الصحابة يطلبون آذانه ليتذكروا المصطفى، فيرفض بشدة قائلا: «مات صاحبي»!. وبدت له المدينة قفراً بخلوها ممن كان أحب إليه من نفسه. فطلب من الخليفة أبي بكر الإذن بالرحيل، وقضاء بقية عمره مجاهدا في سبيل الله. وقد سمع المصطفى يقول: «أفضل عمل المؤمن الجهاد في سبيل». ورحل إلى الشام.
ويذكر أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حين زار الشام، توسَّله المسلمون أن يدعو بلالا ليؤذِّن لهم صلاة واحدة، ورجاه عمر فأذّن بلال, وبكى الصحابة الذين سمعوا آذانه في حياة الرسول، وكان عمر أشدَّهم بكاءً. وحين وصل بلال إلى: أشهد أن محمدًا رسول الله خنقته عبراتُه، فبكى حتى أُغميّ عليه. ويُحكى أنه لم يُر يوما باكياً أكثر منه.
وحين وافته المنية، كانت زوجته بجواره، تئن وتصيح واحزناه. فيرد من بين سكرات الموت: بل وافرحتاه! غدًا نلقى الأحبة. غدًا نلقى الأحبة، محمدًا وصحبه».