“عالم ما بعد أميركا” لماذا أصبح من بين الكتب الأكثر مبيعا في العالم
- Alsekeh Editor
- 6 أبريل، 2023
- محطة المقالات
- 0 Comments
السكة – محطة المقالات – مقال لـ محمد علي فقيه
يبشّر فريد زكريّا في كتابه “عالم ما بعد أميركا” بتحوّل كبير يجري اليوم في العالم. ويكشف عن نهوض أمم مقابل الانحسار الأميركي.
يحظى الأميركي من أصل هندي، الدكتور فريد زكريا، بمكانة كبيرة في مجاله من حيث التقدير لكتاباته، التي تتميز بالتحليل العميق للشؤون السياسية والدولية، فهو من القلة القليلة في النخبة الأميركية التي تؤثر كتاباتها في المثقفين والرأي العام. فقد عمل في السابق كرئيس التحرير في مجلات “فورين بوليسي”، و”نيوزويك”، و”التايم”. واليوم هو مقدّم البرنامج الأسبوعي الشهير عن السياسة العالمية في الـCNN، إلى جانب عمله الصحافي ككاتب مقال رأي سياسي في صحف “واشنطن بوست” و”نيويورك تايمز” و”وول ستريت جورنال”.
يسعى فريد زكريا في كتابه “عالم ما بعد أميركا” للإجابة عن أسئلة كبرى تتعلّق بمستقبل القوى العظمى والصاعدة في العالم، ولا سيما في إثر حروب أميركا الخارجية في أفغانستان والعراق، فقد استبق قول المؤرخ البريطاني بول كينيدي بحتمية انهيار الإمبراطورية الأميركية في كتابه “صعود وسقوط القوى العظمى”، وريتشارد هاس الذي تحدّث عن “عالم بلا أقطاب” عام 2008 في مجلة “فورين أفيرز”.
وثمة من يقارن زكريا بوزير خارجية أميركا الأسبق هنري كيسنجر، فهو أقل شيخوخة منه في الفكر وأقل عيشاً في الماضي. فهناك من يرى من خبراء العلاقات الدولية أن تأثير كيسنجر وأفكاره في منتهى الخطورة، لأنها توحي بتكرار الماضي في وقت سريع التغيّر.
وهناك من يقارنه بشخصية المفكّر الأميركي ذي الأصل الياباني فرانسيس فوكوياما، إلا أن زكريا لا يمضي مثله على طول الخط في دعم السياسات الأميركية، فقد وصف الرئيس دونالد ترامب بأنه “نمر من ورق”، مستشهداً بمواقفه في عدد من الملفات الخارجية، بما فيها التهديدات التي وجّهها إلى تركيا بعدم دخولها إلى سوريا، وقبلها التهديدات التي وجّهها إلى إيران، والتي كانت مجرّد كلمات على الورق برأيه.
أروع ما في كتاب زكريا أنه يبشّر القوى الصاعدة، أو ما يسميها “نهوض البقية”، بأنها ربما تتسيّد العالم خلال العقود القريبة المقبلة.
يبدأ فريد زكريا في كتابه “عالم ما بعد أميركا” بالأزمة المالية التي حدثت عام 2008، فيعتبرها أسوأ انهيار مالي منذ العام 1929، وأفضى إلى أسوأ تباطؤ اقتصادي منذ الكساد الكبير، فتم ضياع ما يقارب 40 تريليون دولار من قيمة الأسهم في الاقتصاد العالمي، وتأميم أكبر مؤسسات الرهن في أميركا.
فعلى مستوى أميركا، كان الدين هو أساس نكبتها الماليّة التي تهدّد نفوذها العالميّ. فالأميركيّون منذ ثمانينيات القرن العشرين شعب يستهلك أكثر ممّا ينتج، ويردم الهوة بين الاستهلاك الكبير والإنتاج القليل بالاقتراض. والدّين العائلي الأميركي ارتفع من 680 مليار دولار سنة 1974 إلى 14 تريليون دولار سنة 2008، وهكذا أصبحت أميركا أمّة من المدينين.
يردّ زكريا سبب الانهيار الاقتصادي الأميركي الكبير إلى النجاح، ويلاحظ أن الربع الأخير من القرن الماضي شهد نمواً استثنائياً وصار حجم الاقتصاد العالمي 62 تريليون دولار في العام 2008، بعد أن كان 31 تريليون دولار في العام 1999. وتزامن ذلك مع انخفاض التضخم الداعي إلى الدهشة. وفي العامين 2006 و2007، وهما ذروة العصر الذهبي، نمت 124 دولة بنسبة 4% سنوياً.
ويقول زكريا إننا نعيش لأوّل مرة في التاريخ ونشاهد مثل هذا النمو للعديد من الدول في وقت واحد. على الرغم من مشاهد الفقر في بعض هذه الدول، إلا أن النمو الاقتصادي فقط في الصين استطاع أن يقلّل من 40% من الأشخاص الذين يعيشيون على دولار في اليوم أو أقلّ عام 1981، إلى 18% عام 2004. هذا الصعود بسبب الاقتصاد المعولم منح هذه الدول الثقة التي عادة ما تكتسبها الدول مع النجاح. إضافة إلى أن هذا النجاح غير مشروط بأميركا.
ويقول أيضاً: “لذا أظهرت مثل هذه الدول نزعة استقلالية وحتى عدائية، يمكن أن نقرأها في الكثير من الأحداث الأخيرة. أميركا فقط أصبحت عملاقاً عسكرياً، ولكن ما عدا ذلك فإن الدول الصاعدة بدأت بمنافستها والتغلب عليها. وهـذا النمو الاقتصادي ينتج تحوّلاً في القوة والنفوذ، وتدفّقاً في الثروة والابتكارات في أماكـن غـير متوقّعة، وهو ينتج أيضـاً ثقة سياسية وفخراً قومياً”.
ويضيف: “إنّ هذا الصعود جعل أميركا تخسر العديد من المواقع التي كانت تقودها، مثلاً: أكبر المصانع في العالم وأكبر مجموعة تجارية هي في الصين. لندن باتت تقود السوق المالية، حتى بعض الأشياء الرمزية التي كانت تشير إلى عظمة أميركا في السابق خسرتها مع هذا النظام المعولم الجديد الذي لم يعد يهتم لها كثيراً”.
ومن بين أكبر 10 مجمّعات تجارية في العالم لا يوجد سوى واحد فقط في أميركا، أعلى مبنى في العالم اليوم يقع في إمارة دبي وهو “برج خليفة”، بوليوود تجاوزت هوليوود في صناعة الأفلام وفي بيع التذاكر . كل هذه الملامح الكبيرة والصغيرة تعكس مثل هذا التوجّه الجديد للعالم اليوم.
اللافت في أزمة 2008 الماليّة أنّها نشأت في معقل الرأسماليّة المتمثّل بأميركا، ومنها عبرت إلى النظام الماليّ الدوليّ. وإن عجزت هذه الأزمة عن تهديد النظام الرأسمالي، فإنّها قادرة على الحدّ من الهيمنة الأميركيّة على العالم. وقد يسرّع الهيجان الاقتصادي العبور إلى “عالم ما بعد أميركا” كما نزعت حرب العراق الفاشلة الصفة الشرعيّة عن السلطة السياسيّة العسكريّة الأميركيّة.
يحاول زكريّا في كتابه “عالم ما بعد أميركا” أن يبشّر بتحوّل كبير يجري اليوم في العالم، وأن يظهر نهوض أمم مقابل الانحسار الأميركي. ويستند في ذلك إلى التحوّلين العظيمين في القـوى خـلال القرون الخمسة الماضية. فبعد بروز العالم الغربي في القرن الـ15 ومن ثم في أواخر القرن الـ18، والذي انتهى مع بداية بروز الولايات المتحدة كقوة عظمى جديدة في أواخر القرن الـ19، ما هيّأ لمرحلة من التحوّل البنيوي هو الأول من نوعه في صيرورة التاريخ الإنساني المعاصر، فشهد صعود القوى الغربية، الأوروبية بالأساس، باتجاه معارفَ وقيمٍ ونظم جديدة.
ويوضح زكريا أن هذا التحوّل الجديد في “نهوض البقية” الذي يطلق عليه “التحوّل الثالث” في كتابه “عالم ما بعد أميركا”، لا يعني سقوط أميركا كما حدث مع التحوّلات السابقة حيث يشهد صعود قوة وانهيار أو ضعف قوة أخرى، بل نهوض أمم من الدول الأخرى مثل الصين والهند والبرازيل وتركيا وجنوب أفريقيا وكينيا، والكثير، الكثير غيرها، في مقابل الانحسار الأميركي فيبشّر بتحوّل كبير يجري اليوم في العالم.
وقد تحدّث عن “نهوض البقية” الدبلوماسي الأميركي السابق ريتشارد هاس الذي يترأس مجلس العلاقات الخارجية والذي يضم خيرة الدبلوماسيين الأميركيين، في مقالته المهمة بعنوان “العقد الخطير… العالم يمر بمرحلة مفصلية في تاريخه” في مجلة “فورين أفيرز” العام الماضي، بقوله إن “الهيمنة الأميركية في طريقها إلى الاضمحلال، ليس بسبب تدهورها، بل إلى ما أطلق عليه زكريا “نهوض البقية”، أي تطور الدول والكيانات الأخرى اقتصادياً وعسكرياً، وبروز عالم من سماته انتشار القوة على نطاق أوسع.
يتحدث زكريا في كتابه عن حقيقة قد تبدو مفاجئة لكثير من صنّاع القرار والمراقبين لتطور الأحداث السياسية في العالم، وهي أن التحدي الأخطر الذي يواجه الولايات المتحدة اليوم هو حالة “الضعف السياسي” الذي تمر به، في الوقت الذي تأخذ فيه قوى أخرى بالتقوي والتعاظم، وبالتالي فإن الدور المركزي الذي كانت تقوم به واشنطن آخذ في التلاشي، والتراجع.
ويعطي زكريا مثالاً على تراجع الولايات المتحدة بقوله: “خلال النزاع بين روسيا وجورجيا، كان الرئيس الفرنسي حينها نيكولا ساركوزي هو من ذهب إلى موسكو، وليس (الرئيس الأميركي جورج) بوش. وعندما دخلت إسرائيل وسوريا في مفاوضات كانت تركيا هي من أدى دور الوسيط بينهما وليس واشنطن. وعندما تقاتلت الأحزاب اللبنانية بالسلاح مرة أخرى فيما بينها في أيار/مايو 2008، كان أمير قطر الشخص الوحيد الذي استطاع الإتيان بهم إلى طاولة المفاوضات. لم تكن الولايات المتحدة موجودة في أي من هذه الحالات”.
وهذا ما يؤكده أيضاً الاتفاق السعودي – الإيراني الأخير، الذي رعته الصين.
ويتابع زكريا: “هذا الأمر لم يكن حتى التفكير فيه ممكناً قبل عقد من الاَن، أما اليوم فقد أصبح عادياً”.
سمح النظام العالمي الحالي بظهور فاعلين جدد بأنماط مختلفة عن النمط التقليدي المتمثل في “الدولة القومية”، باعتبارها الفاعل الذي ظل يحتكر مجال السياسة الدولية في الماضي. ويذكر زكريا في هذا الصدد نماذج الجماعات الإرهابية المنظمة، وكذا الشركات العملاقة متعدّدة الجنسيات. ولا تغيب عنه تلك التحدّيات السياسية والدبلوماسية التي تواجه الولايات المتحدة، فالصين وروسيا أصبحتا فاعلين قويين في العديد من الملفات التي كانت حكراً على الولايات المتحدة ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط وفي كوريا الشمالية وفي القضايا الإيرانية المعلّقة.
يستشرف زكريّا المستقبل ويختصر التحدّي المقبل بالجغرافيا والتاريخ والمصالح والإمكانات المختلفة، مشيراً إلى أن التحوّل الكبير مرتبط بالقوّة لا بالثقافة. فالصين تملك احتياطاً من العملة الأجنبيّة يقدّر بـ1.5 تريليون دولار، أي أكثر بثلاثة أضعاف ممّا يملكه الاتّحاد الأوروبّي كلّه، ما يعني أنها ذات قدرة رائعة على مواجهة أيّ صدمة أو أزمة، وهي ثاني أهمّ دولة في العالم (بعد أميركا).
ورغم ذلك يؤكد زكريا أنه لن يكون هناك نظام دولي من دون الولايات المتحدة، وأن دورها سيستمر في تحديد الأجندة الدولية، وترتيب أحجار شطرنج التحالفات لمواجهة الأزمات الدولية، وتعبئة الموارد والقيام بدور الوسيط العالمي، في عالم يحاول أن ينأى بنفسه عن مشهدية القطب الأحادي.
ويوضح زكريا بأنه قبل أن تشرع واشنطـن بعملية تحـوّل جـدي في استراتيجيتها العالمية، وتسعى لمشاركة الآخرين في السلطة، وتكوّن تحالفات جديدة، لا بد لها من أن تقوم بتعديل أوسع بكثير، فهي بحاجة إلى التوقّف عن الخوف. إنه الخوف الذي جعلها ترتكب أخطاء استراتيجية، وكي تستعيد الولايات المتحدة مكانتها فى العالم، عليها أولاً أن تستعيد ثقتها بنفسها.. فالمستقبل الذي نواجهه هو “عالم ما بعد أميركا”.
لزكريا عدة مؤلفات بالإضافة إلى “عالم ما بعد أميركا”، نذكر منها “في الدفاع عن التعليم الحر”، و”مستقبل الحرية: الديمقراطية غير الليبرالية في الوطن وخارجه”.
نقل الكتاب إلى العربية المترجم بسام شيحا، ونشرته “الدار العربية للعلوم ناشرون” في بيروت.
ويعد هذا الكتاب من أهم الكتب التي صُنّفت ضمن قائمة الكتب ال150 الأكثر مبيعاً في العالم، فضلاً عن تربّعه على عرش المركز الثاني في صحيفة “نيويورك تايمز” كأفضل الكتب مبيعاً، والمركز الـ47 على مستوى الولايات المتحدة الأميركية.