غسان كنفاني … يا سيد المرافىء … مقال لـ محمد أبو عريضة

السكة – محطة المقالات 

 

غسان علمنا حب القضية بيقولوا نسينا بيقولوا نسينا وبحبك ياما ياما انكوينا لأكتب ع قلبي لأكتب ع ترابك فداكي فداكي فداكي روحي فداكي عينيّا غسان علمنا حب القضية فمن أنت يا غسان الذي علمتنا حب القضية؟

* هو غسان كنفاني ابن عكا الذي ذاب وجدًا بالمرافيء وغاص بغضًا بالصحراء فها هو في “ما تبقى لكم” يفيء إلى المرفأ والمرفأ هنا مريم … البطلة … أو فلسطين التي تحمل من دون زواج، في إشارة إلى الاحتلال. وتارة أخرى خيار المقاومة بوصفه مرفأ آخر يلوح منه الوطن هناك في الأفق البعيد لكنه حينما أراد أن يتحدث عن الصحراء، بوصفها نقيض المرفأ يختار زكريا النتن الذي يتزوج مريم فهل طرقت جدران الخزان يا غسان؟

* وفي عائد إلى حيفا يفيء أيضًا إلى مرفًا آخر هو حيفا أم المرافيء ومدينة الفُلْكِ وهي تأتي من هناك من فوق الموج وتمخر من هنا من تحت المطر غسان القضية هنا يرسم بريشته نصًا أدبيًا روائيًا غير أنه يعيد قراءة تجربة شخصية عاشها في الوطن وعاشها يوم هاجر وعاشها في الشتات غسان الذي علمنا حب القضية يقول لحيفا التي عاد إليها بطلا الرواية: الإنسان هو القضية وفلسطين ليست فلكلور نستعيده من الذاكرة بل هي مستقبل نصنعه من الوجد والوجع فهل طرقت جدران الخزان يا غسان؟

*** فما حكاية الخزان وجدرانه والطرق عليه غسان القضية هنا يسافر إلى الكويت للعمل تهريبًا عبر البصرة أو أبو قيس بطل رواية “رجال في الشمس” حينما يحشره ورفاق رحلته إلى الموت سائق الصهريج داخل الخزان ولمّا تأتي الحدود لهيب الشمس والصهريج في الانتظار تقتل غسان القضية أو أبا قيس بطل الرواية فلماذا لم تطرق جدران الخزان يا أبا قيس؟ صحيح أن السلطات ستسجنك لكنها لن تقتلك فلماذا لم تطرق جدران الخزان يا غسان؟

** عكا مرفأ غسان الأول فهي مدينته حيث ولد في نيسان وحيث ظلت تسكنه إلى أن اغتاله الموساد في بيروت في تموز عام ألف وتسعمئة واثنين وسبعين ظل غسان يفيء إلى عكا ويتذكر يوم نيساني آخر يوم هجمت عصابات الهاجاناة وشتيرن على المدينة فحملت العائلة كغيرها من عائلات المدينة ما استطاعت أن تحمله وإلى صيدا حيث مرفأ آخر ينتظرك يا غسان لكن قبل ذلك علينا أن نمر على مرفأ ظل غسان يحمله داخل شغاف قلبه فهل طرقت جدران الخزان قبل تترك يافا يا غسان؟

*** يافا مرفأ غسان البديع ففيه تفتحت عيناه على العالم وفيه أو في حي المنشية فيه بدأ غسان حبوه الأول نحو الشاطيء فيه أحب البرتقال وفيه عشق البحر فلم يغادره حتى وهو في دمشق ظل برتقال يافا وبحرها يسكناه فهل طرقت جدران الخزان في يافا؟ أم لأن أناملك كانت غضة لم تعرف أنك تقبع هناك داخل الخزان؟

*** صيدا مرفأ غسان الجديد ففيه وجدت العائلة مكانًا تفيء إليه من وجع التهجير صحيح أن غسان لم يجد فيه ما افتقده في يافا وذكريات تركتها العائلة في عكا غير أنه يبقى مرفئًا يفيء إليه كلما عنّت على نفسه الاستلقاء في حضن الموج دمشق التي انتقلت العائلة إليها لم تكن مرفئًا غير أن غسان رسمها في وجدانه مرفئًا وفي هذا المرفأ البعيد عن البحر بدأت مواهب غسان في اللغة العربية وآدابها تتفجر فعمل في كتابة السيناريو وعمل في صحف مختلفة غير أنه التحق في الآن عينه بجامعة دمشق حيث أنهى فيها دراسة الأدب العربي فلماذا لم تطرق جدران الخزان مذ ذاك يا غسان؟ *** الكويت، إلى حيث ارتحل للعمل مرفأ غسان الجديد فيه غاص في تفاصيل الكتاب حد الجنون فقد كان يقرأ ما لا يقل عن ستمئة صفحة كل يوم وفيه بدأ يعمل محررًا في إحدى الصحف ويكتب تعليقًا صحافيًا بتوقيع “أبو العز” وفيه كتب أولى قصصه القصيرة “القميص المسروق” لكن فيه أيضًا بدأت تظهر عليه بوادر إصابته بالسكر ويبدو أنه من وحي تجربته في هذا المرفأ استقى تفاصيل “رجال في الشمس” فلماذا لم تطرق جدران الخزان يا غسان؟

*** بيروت أحب المرافيء وآخرها ففي عام الستين وصل بيروت للعمل محررًا في مجلة الحرية في هذا المرفأ تفجرت مواهبه الكثيرة من كتابة القصة إلى الرواية إلى الدراسات والأبحاث إلى المقال السياسي وإلى الرسم، فقد كان غسان فنانًا تشكيليًا موهوبًا غير أن طبيعة حياته والمخاطر التي ظلت تحيق به حالت دون تألقه في هذا النوع من الفنون

*** قبل بيوت، كان قد التحق بصفوف حركة القوميين العرب وما أن أعلنت الحركة، بعد النكسة، تحولها إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين حتى وجد غسان مكانه رئيسًا لتحرير مجلة الهدف ذراع الجبهة الإعلامي فأدارها باقتدار وفي بيروت التقى أول مرة زوجة المستقبل الدنماركية آني وفيها رزق بفايز وليلى وفيها اشتبك بتفاصيل العمل السياسي وفيها أصبح المتحدث اللبق باسم الجبهة الشعبية يعيش شظف العيش بين الفدائيين لكنه سرعان ما يعود مثقفًا يناقش ويتحدث ويقارع الحجة بالحجة

** لأن غسان كان صادقًا وعميقًا وأخذ قلمه يغضب العدو كان لا بد من قتله وفي صبيحة يوم السبت الثامن من تموز انفجرت عبوة ناسفة زرعها الموساد في سيارته فاستشهد على الفور واستشهدت معه ابنة شقيقته الأحب إلى قلبه لميس طوبى لك يا غسان عشت ستة وثلاثين عامًا لكنها كانت كافية لتنتج اثني عشر عملًا أدبيًا وعشرات الكتب السياسية ومئات المقالات وترسم عشرات اللوحات طوبى لك أيها المرتحل الدائم بين المرافيء فلماذا لم تطرق جدران الجدران يا غسان؟

اترك تعليقا

NEW