قراءة في كتاب”الكولونيالية الخضراء” كيف سرق الرجل الأبيض افريقيا بحجة حماية البيئة؟

ما الذي يمكن أن يخطر لك حينما تقرأ كلمات من قبيل: المتنزهات الطبيعية، أو المحميات، أو الحفاظ على البرية، أو صون السلالات الحيوانية المهددة بالانقراض؟ قد تخطر لخيالك حيوانات راقدة في كسل جميل، أو أخرى نشطة في لهو آمن باعث على البهجة، ولعل حشائش على مرمى البصر تمتد أمام عين خيالك، أو تقوم أشجار سامقة تكاد تلامس السحب القليلة في سماوات أفريقيا الساطعة، لكنك على الأرجح لن تتصور بشراً يعانون شظف العيش، أو قبائل عن بكرة أبيها أزيحت بعيداً لكي لا تلتقطها عدسات الكاميرات ذات الرؤية الواسعة التي تستعملها قنوات من قبيل “ناشونال جيوغرافيك” أو حتى التي يلتقط بها السائحون لأنفسهم صوراً في قلب تلك البكارة الناجية من تغير المناح أو تغول البشر المزعوم.

والحق أن ما ينبغي أن يخطر لك، من أجل أن تكتمل الصورة، هو شقاء هؤلاء البشر، إخوتك، لا نعيم الحيوانات، وابتسامات السائحين.

ذلك ما يحاول المحاضر في التاريخ الحديث بجامعة رينيه دو، عضو معهد فرنسا الجامعي، غيوم بلانك أن يفعله في كتابه الذي صدرت ترجمته الإنجليزية قبل أشهر قليلة بقلم هيلين موريسن تحت عنوان “اختراع الكولونيالية الخضراء” عن دار نشر بولايتي في 180 صفحة فقط لكنها تحتشد بنطاق شاسع من المعلومات التي جمعها المؤلف وجعلت الكتاب، بحسب بعض من كتبوا عنه، تحدياً قوياً لأفكار راسخة وشائعة، بل إنه في بعض مواضعه “مثير للجدل على نحو مروع”.

يستهل جيريمي وليمز استعراضه للكتاب (في موقع earthbound.report بتاريخ 21 نوفمبر “تشرين الثاني” 2022) بزيارة أجراها هو وأسرته قبل بضع سنوات إلى منطقة البحيرة في بريطانيا، وهذه المنطقة هي أكبر متنزه طبيعي في المملكة المتحدة وتحظى بحماية اليونيسكو باعتبارها أحد مواقع التراث العالمي.

يقول وليمز “مشينا في التلال، وزرنا بلدتي أمبيلسايد وكيسويك الصغيرتين اللتين تقعان داخل (الحديقة الوطنية)… وليس هذا بغريب في المتنزهات الوطنية في بريطانيا. صحيح أن ثمة قيوداً معينة على ما يمكنك فعله فيها وما لا يمكنك فعله، لكن الناس بعامة يعيشون فيها. يقودون سياراتهم ويديرون أعمالهم. ويرعى الرعاة حيواناتهم على سفوح التلال. ولو أن هذا هو المتبع في بريطانيا وفي عديد من الأماكن بأميركا الشمالية وأوروبا، فلماذا طردوا الناس عند إنشاء حديقة سيمين الوطنية في مرتفعات إثيوبيا؟ ولماذا جردتها اليونيسكو من مكانتها كموقع تراثي عالمي عندما عاد إليها الناس؟ أو بالأحرى أهلها”.

هذه هي الملاحظة الأساسية التي يقوم عليها كتاب (اختراع الكولونيالية الخضراء) للمؤرخ الفرنسي غيوم بلانك، إذ يكتب أنه “في أفريقيا، يجب أن تكون الحديقة الوطنية فارغة من الناس. ففي جميع أنحاء القارة، جرت العادة على تطهير محميات الحياة البرية من البشر، وغالباً بالعنف تم تشريد مليون شخص، وأقصيت القبائل البدوية، وليس مسموحاً بالزراعة أو الرعي داخل المتنزهات، وممنوع على السكان المحليين اصطياد الحيوانات البرية، على رغم أن الأجانب يمكن أن يدفعوا مقابل هذا الامتياز”.

اكتشاف الحياة البرية في أفريقيا

للتحقيق في هذا التفاوت، يروي المؤرخ الفرنسي غيوم بلانك قصة “اكتشاف” المستكشفين الغربيين للحياة البرية في أفريقيا. يكتب وليمز أنه “منذ أن بدأت الحملات الاستكشافية المبكرة وقعت أوروبا أسيرة الافتتان بأفريقيا بوصفها منظراً طبيعياً برياً غير مستغل، فقد كانت الحيوانات الضخمة التي أبيدت في أماكن أخرى لم تزل مزدهرة في القارة، فبدت أشبه بجنة عدن”.

في استعراض للكتاب (موقع liberationorg.co.uk بتاريخ 14 يوليو “تموز” 2022)، يكتب بوب نيولاند أن هناك تبريراً شائعاً و”دائم التكرار” وأنه ليس بغريب على دارسي الكولونيالية عموماً، ومفاده أن “الكولونياليين سيطروا على أرض شاغرة وعملوا على تطويرها، بهذه البساطة. ومن أجل تحويل ذلك الزعم إلى واقع كان لا بد من طرد شامل للشعوب الأصلية من أراضيها في أميركا واستراليا ونيوزيلاندا وعموم أفريقيا. غير أن تركيز بلانك منصب على أفريقيا، وعلى إثيوبيا بصفة خاصة”.

يقترب نيولاند من فكرة “عدن” التي أشار إليها وليمز بقوله إن “المتنزهات الطبيعية قائمة على فكرة عدن الموروثة من الحقبة الكولونيالية أو المستمرة منذ تلك الحقبة، وهذه الفكرة ترى أفريقيا مؤلفة من غابات ومساحات خضراء تسكنها النباتات والحيوانات. وهذه الفكرة، أو الأسطورة التي لم يكن لها من وجود قط، قد أنشأها خبراء العصر الكولونيالي”.

يكتب جيريمي وليمز أن هذه الـ”عدن” المزعومة هي التي تظهر عليها أفريقيا غالباً في الأفلام الروائية أو الأفلام الوثائقية، وما هي إلا “محض خرافة”، كما يقول بلانك، فـ”لقد تعرضت أفريقيا للاحتلال. وكل ما في الأمر أن ساكنيها بدو عديمو القيمة في نظر المحتلين. وفي حين أن المستوطنات البشرية قد تعد في شمال الكرة الأرضية جزءاً منتمياً إلى المتنزهات الوطنية وآفاقها الطبيعية نفسها، بل وباعتبارها مناسبة من الناحية الثقافية، وربما (جزءاً من سحرها)، فإن وجود الأفارقة وثقافتهم قد اعتبر (إفساداً) لبكارة البرية. فحينما بدأت القوى الاستعمارية إنشاء الحدائق الوطنية وتحديدها، طهرتها من السكان”.

“ولتبرير عمليات الإخلاء، نشأت سردية أظهرت المزارعين والرعاة باعتبارهم مدمرين. فهم الذين قطعوا الأشجار وقتلوا الحيوانات. ولا شك في أن هذا كان الحال في بعض الأحيان، لكن غالباً ما كان ذلك يعتمد على افتراضات في شأن الطبيعة لا تتماشى بالضرورة مع السياق الأفريقي، كما يقول بلانك. فعلى سبيل المثال، كانت أجزاء كبيرة من أوروبا مكسوة ذات يوم بالغابات وستعود كذلك بشكل طبيعي إذا تركت وشأنها. وغالباً ما افترضت السلطات الاستعمارية أن هذا ينطبق أيضاً على أراضيها الأفريقية، فكتبت عن الغابات المفقودة التي أزالها السكان المحليون المهملون، بل إن ثيودور روزفلت قال عند زيارته لأوغندا إن (هؤلاء الهمج يسرفون في تدمير الغابات)”.

“أما الواقع فقد كان أكثر تعقيداً. ففي معظم الأماكن، عاش الناس جنباً إلى جنب مع الحياة البرية التي دامت بطبيعة الحال لآلاف السنين قبل ظهور البيض. وفي بعض الأماكن ربما نظر الإمبرياليون إلى بقايا غابة معرضة للخطر، لكن الوضع نقيض ذلك في أماكن أخرى، إذ تكون الأرض جرداء، وتكون المستوطنات البشرية هي التي هيأت الظروف فيها لنمو الأشجار والغابات. ومع ذلك، بقي اللوم ينصب على السكان المحليين وأنماط الحياة التقليدية، حتى لو أن زوال الغابات كان نتيجة للتوسع الاستعماري وزراعة محاصيل التصدير. وكان المنطق الأساسي المعلن في بداية الأمر ثم المضمر بشكل متزايد هو أن (العالم الحديث المتحضر يجب أن يستمر في إنقاذ أفريقيا من الأفارقة)”، كما كتب بلانك.

نمط ظالم

يرى بلانك أن القواعد الأساسية للحفاظ على الطبيعة في أفريقيا قد وضعت من دون إجراء دراسات مسحية علمية للأراضي والحياة البرية، في وقت الحكم الاستعماري القائم على عقيدة تفوق العرق الأبيض. واستمر هذا النمط الظالم بعد نهاية الإمبراطورية متمثلاً في أعمال المؤسسات الغربية. ولا عجب، فـ”الخبراء” الكولونياليون الذين لفقوا فكرة عدن الأفريقية هم “الذين أنشأوا المنظمات الدولية من قبيل اليونيسكو والصندوق العالمي للحياة البرية (WWF) والاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة (IUCN)”، على حد قول وليمز. وهذه المنظمات هي التي شرعنت العنف والتهجير باسم الحياة البرية، فمنحت بذلك أداة قمع جديدة للطغاة في أفريقيا، إذ يقول وليمز إن “حكومات الاستقلال الأفريقية غالباً ما تمتثل لما تؤمر به لضمان التمويل، الذي غالباً ما يكون خاضعاً لإشراف الخبراء الأجانب.

وقد أدت شرعنة العنف والتهجير باسم الحياة البرية إلى منح النخب المحلية الفاسدة أداة قمع ناجعة، إذ صار الطغاة يعلنون أن منطقة ما باتت (محمية) ويقومون على أثر ذلك بقمع قبائلها عقاباً على عدم تصويتها لصالحهم، كما اتخذت الحكومات الاشتراكية من الحفاظ على البرية ذريعة لنزع أملاك المزارعين وتركيز ملكية الأرض. وكل ذلك صدقت عليه المؤسسات الغربية التي قدرت الحياة البرية من دون الحياة الإنسانية”.

يكتب نيولاند أن “اليونيسكو هي الجاني الرئيس الذي يطالب بالإبعاد القسري للرعاة والمزارعين الذين تشكل أنشطتهم تهديدات لسلامة المتنزهات من خلال الزراعة وتآكل التربة. وتلقت اليونيسكو دعماً في هذا من الصندوق العالمي للحياة البرية الذي يدعي أن السكان المحليين يشكلون خطراً على السلالات المهددة بالانقراض”. “وتطالب اليونيسكو الحكومات الأفريقية بطرد السكان من المتنزهات، بالقوة لو لزم الأمر، من أجل منحهم وضعية التراث العالمي التي تعد شرطاً حاسماً لجذب السياحة البيئية”. وهكذا، “باسم الحفاظ على البرية والطبيعة تشارك هذه المنظمات في حظر الزراعة وإجلاء الناس من منازلهم ومن مراعيهم”.

يكتب وليمز أن نظرة الكتاب التاريخية العامة تمر بسلسلة من العصور، من الحقبة الاستعمارية إلى أوائل عهد الاستقلال، إلى عصر التنمية المستدامة والحفاظ على المجتمع. فيوضح بلانك عبر تلك الفترات جميعاً كيف استمرت الهيراركيات العنصرية والأساليب البطريركية. ويحفل الكتاب بالتفاصيل والملاحظات والرسائل المأخوذة مباشرة من أراشيف اليونيسكو والصندوق العالمي للطبيعة والاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة. وهذا البحث الأصلي المباشر يجعل العنصرية وازدواجية المعايير واضحة لا تقبل الجدل، وذلك حاضر في كلمات دعاة الحفاظ على البيئة، مثل المقرر الذي خلص إلى أنه سيكون من الضروري “القضاء على جميع الحقوق الفردية وحقوق الإنسان” داخل المتنزهات إبعاداً للسكان المحليين. وهذا الحضور الكبير للأرشيف مصدر قوة أكيدة للكتاب، بل هي بحسب بعض من عرضوا له هي أكبر إسهاماته.

الواقع القائم على الأرض، كما يكتب بوب نيولاند في استعراضه، “مختلف أشد الاختلاف. ففي حين يزعم الكولونياليون أن التخلص من السكان الأصليين فيه إنقاذ للغابات والحياة البرية، فإنهم [الكولونياليين] أصدروا تصريحات بالصيد للزوار الأجانب الأثرياء (فتعرض من جراء ذلك 65 ألف فيل للقتل طلباً للعاج في عام واحد) وفي أماكن أخرى أزيلت الغابات لتوفير الخشب اللازم لإنشاء السفن للإمبراطورية”.

ويمضي نيولاند فيكتب أن “الحقائق والأرقام لا تعني كثيراً للخبراء والمنظمات التي أنشأوها. ففي إثيوبيا كانت الغابات – بحسب ما يقال – تغطي 40 في المئة من الأرض وتقلصت إلى أربعة في المئة، وليس لهذا أي أساس معلوماتي، بل إن البيانات التاريخية ترسم صورة شديدة الاختلاف”.

طرد السكان

يكتب وليمز أن بلانك يؤسس كتابه على حديقة سيمين في إثيوبيا “مفسحاً المجال لأصوات السكان المحليين والمزارعين المطرودين، وكذلك حراس الحدائق والسائحين الأجانب”.

وتابع “لقد أجرى بلانك مقابلات مع السكان المحليين. فبعضهم مقتنع بأن المتنزهات الوطنية بيئة محتضرة، ويزعمون أنهم ساعدوا الغابات على النمو، وأصلحوا الأرض لتهيئتها للري وزرع المحاصيل فمنعوا تآكل التربة. وعلى رغم اتهامهم بقتل الحيوانات الأصلية، فهم يزعمون أنهم حموا البيئات الطبيعية التي ازدهرت فيها الحيوانات”.

يتساءل وليمز في نهاية مقاله “والآن ما العمل؟” ويجيب قائلاً إن “هذا ما لا يتطرق إليه الكتاب، وما انتقد بسببه في نسخته الفرنسية الأصلية. وأنا أفهم لماذا لم يمضِ الكتاب في هذا الطريق. فبوصفه مؤرخاً لا داعية من دعاة الحفاظ على البيئة، يروي غيوم بلانك قصة تدهور الأمور وسلوكها الطريق الخاطئ. أما من يبحث عن طرق أكثر تفاؤلاً فليبحث في مكان آخر. فمهمة هذا الكتاب تتمثل في تقديم التاريخ عسى أن نفهم ما يحيط بالحفاظ على البرية من توترات معاصرة”.

ويكفي كتاب (اختراع الكولونيالية الخضراء) أنه يمثل نقداً لاذعاً للحفاظ على البرية الأفريقية، إذ يرى أن حركة المتنزهات الوطنية في أفريقيا على وجه الخصوص تمثل جزءاً من عملية إرغام العالم المتخلف على تقديم التضحيات لكي يتمكن الرأسماليون من الاستمرار في استغلال موارد العالم كما يحلو لهم.

وعلى أية حال، يضيف بلانك في الترجمة الإنجليزية لكتابه تذييلاً يخلو منه الأصل الفرنسي، يحاول فيه أن يرد على الانتقادات التي انهالت على كتابه. فيقر بأنه اقتحم بكتابه منطقة مثيرة للجدل. ويؤكد أنه لا يعارض الجهود المبذولة لحماية السلالات المهددة بالانقراض. وإن كل ما يذهب إليه، ببساطة، هو أن إصبع الاتهام موجه إلى غير وجهته الصحيحة. فالفيلة وغيرها من السلالات المهددة لا يصطادها الرعاة والمزارعون وإنما عصابات الصيادين الدولية المنظمة التي تستعمل في جرائمها تلك أحدث التقنيات الحديثة.

يكتب بوب نيولاند أنه شأن كثير من التقدميين كان يرى دائماً أن الحدائق الوطنية وأجندة الحفاظ عليها أمر حميد، لكن هذا الكتاب يتحدى هذه الفكرة بقوة. ويقول إن “الإحصاءات الكاذبة تظل دافعاً لحركة المتنزهات الطبيعية. ومن المؤسف، أنه تم إشراك عديد من الحكومات الأفريقية في هذه الفكرة، إذ تم إقناعهم بمسؤوليتهم عن إنقاذ الطبيعة والفوائد المالية المترتبة على السياحة البيئية، وتم إرغامهم على توظيف خبراء استعماريين زائدين على الحاجة في إدارة المتنزهات ووضع السياسات”.

يكتب غيوم بلانك أنه “بدلاً من الاعتراف بأن خدعنا الكولونيالية هي التي تسببت في تدهور الحياة البرية، ألقينا اللوم على الأفارقة الريفيين. وهذا هو السياق الذي تم فيه إنشاء محميات الطرائد التي دأب البيض على الذهاب إليها في رحلات السفاري، أما صيد الأفارقة فكان لزاماً أن يسمى الصيد الجائر”.

لو أن مشكلة تدهور البرية الأفريقية صنيعة غربية فما الحل؟ هل الحل يتمثل في انسحاب الغرب من أفريقيا، بـ”خبرائه” ومنظماته ذات الأسماء البراقة والسمعة الملوثة وترك أفريقيا للأفريقيين؟ ربما يكون هذا حلاً على رغم أنه يعفي الجناة من تحمل مسؤولية إصلاح ما أفسدوه. وربما يكون الحل ما يقترحه بلانك “إن اللوم ينصب على الاستهلاكية والرأسمالية التي تشجعه… وما من حل ممكن للأزمة البيئية الراهنة إلا في إصلاح جذري للنظام الرأسمالي العالمي” وعلى رغم ما في هذا من إسراف في الطموح، لكن، من ذا الذي يملك حيال دعوة كهذه أن يبخل بـ”آمين”.

العنوان: The Invention of Green Colonialism 

تأليف: Guillaume Blanc 

الترجمة إلى الإنجليزية: Helen Morrison 

الناشر: Polity

اترك تعليقا

NEW