ويمكن للقارئ أن يجد امتداد مقدمة المترجم وظلال خياره الأنطولوجي مباشرة بعد تجاوز النص الأول لسنغور، حيث يقرأ نصاً بلغة برية لصوت شعري متأثر بتجارب الشعراء الجوالين، لكن بأسلوب معاصر تمكن المترجم من التقاطه بشكل لافت، حيث تبدو الصياغة العربية للنص الشعري بالغة التماسك والتناغم.
يقول نداي كومبا دياخاتي في نص عنوانه “قوّالُ سلالتي”: “أنا خشب الأبنوس/ الذي يستهلك نار الكذب البطيئة/ أنا الحصى الأحمر لدم أسلافنا الشرس/ لستُ زنجي الأحياء الفقيرة/ المحشور في حفرة قذرة/ ملتصقاً بالسخام…/ وها أنا أحطم السلاسل/ والصمت الكاذب الذي قذفتني به”.
هذه النبرة الصارخة تتكرر في العديد من النصوص، فالذاكرة الجمعية للأفارقة السود يستحيل أن تتخلص من آثار تاريخ طويل من العبودية والاستعمار، بما راكمه هذا التاريخ من ظلم وإقصاء وميز عنصري.
يخاطب الشاعر دافيد ديوب قارته السمراء بنص مبطن بالشجن والألم: “قولي لي يا أفريقيا/ هل أنت هذا الظهر الذي ينحني/ ويغفو تحت وطأة الذل/ الظهر المرتجف بأخاديده الحمراء/ والذي يقول نعم للسوط/ على طرقات الزوال “.
إن قصيدة الشاعر الإيفواري برنار بينلين داديي هي بمثابة لافتة احتجاج ضد استمرار الحيف الممارَس على أفريقيا على رغم كل الخطابات التي ألغت العبودية وأعلنت نهاية العهد الكولونيالي، وعلى رغم كل المواثيق الدولية الداعية إلى العدالة والمساواة بغض الطرف عن كل الفوارق الإثنية . في نص بعنوان : “يا رجال كل القارات” يقول هذا الشاعر : “يا رجال كل القارات/ ما زال الرصاص يجز أعناق الورود/ في صباحات الحلم”.
وفي قصيدة للشاعر الغيني كيتا فوديبا مناجاة ليلية حزينة تكشف عن مأساة بلاد “الماندينغ”. وفي نص بعنوان “دجيبوتي مرج أخضر” يستعيد الشاعر تييرنو مونينيمبو الملامح المتبقية من ماضي القارة السمراء متوقفاً عند “ليالي أفريقيا/ اللزجة/ الدبقة/ مثل أجنة غير مرغوب فيها”. توجد بغزارة لافتة في نصوص الشعراء الذين اختارهم نجيب مبارك الاستعاراتُ والبلاغات التي تنقل الألم الأفريقي، وتحمل إلى أسماع العالم أنين القارة التي رزحت تحت نير الظلم الجغرافي والتاريخي لها.
الخوف على الهوية من الشتات
إن سؤال الهوية في القضية الأفريقية سؤال جارح، فثمة محاولات اجثتات مطردة مارسها الاستعمار إن بشكل مباشر، أو غير مباشر بعد انسحاب القوى الكولونيالية منتصف القرن الماضي.
إن التدخل الأوروبي في أفريقيا الذي اتخذ طابعه الرسمي عبر اتفاقية برلين عام 1885 استمر لفترة طويلة، وترك بالتالي آثاراً على الملامح الثقافية للقارة السمراء.
لقد استطاعت أوروبا الغربية تقسيم أفريقيا على النحو الذي تريد، وكان لكل من فرنسا وبريطانيا حصة الأسد، وما تبقى توزع بين ألمانيا وإسبانيا والبرتغال وبلجيكا وإيطاليا ، بالتالي فإن نهب خيرات القارة من ذهب ونحاس ومطاط رافقه نهب ثقافي وحضاري.
لقد سعت الحركات الاستعمارية إلى إخراج الإنسان الأفريقي من أصالته ، وقد بات هذا واضحاً في أساليب العيش، وانعكس بالتالي على الأشكال التعبيرية التي يوجد الشعر بالضرورة ضمنها، ولعل الملمح الأول لهذا التأثير هو انتقال الشعراء الأفارقة إلى الكتابة بلغات مستعمريهم، الإنجليزية والفرنسية والبرتغالية بالأساس.
في أنطولوجيا نجيب مبارك يطرح الشاعر الغيني أوديتي سيميدو إشكالية الهوية اللغوية : “بأي لغة أكتب؟/ اعترافات الحب/ بأي لغة أغني؟/ الحكايات التي رويت لي/ بأي لغة أحكي؟/ يوميات نساء ورجال بلادي/ كيف يمكن استحضار القدماء؟/ وأغنيات الماضي/ هل يجب علي أن أتحدث لغة الكريول؟/ إذن سأتحدث الكريول/ لكن أي آثار سأترك/ لأطفال هذا القرن الصغار؟ “. إنه وهو يعترف بهيمنة البرتغالية باعتبارها لغة التواصل الحديثة في بلده غينيا بيساو، يؤمن بأن الزمن لن يطمس هوية أجداده، وبأن الأطفال سيعرفون لاحقاً ما كان عليه أسلافهم الذين كانت الكريولية لغتهم الأولى، قبل وصول المستعمر البرتغالي.
هذا ما يدعمه شاعر الرأس الأخضر كورسينو فورتس حين يقول : “وحدها المستنقعات/ تشهد فوق الأرض/ أني تركتُ بصمة قدمي”. فإذا كان التاريخ سريع التحول فإن الجغرافيا ثابتة وراسخة، إذ يستحيل على المستعمر نهب الجبال والوديان والسهول التي تشكل فضاءً شاهداً على حضارة غير مجبرة بالضرورة على أن تشبه حضارة الآخرين.
إن شاعر البنين هارموني دودي بيل كاتاريا يوجه دعوة ضمنية إلى التشبث بالهوية الأفريقية، نكاية بكل محاولات الاقتلاع. يقول: “لا تدع الريح تقتلع من رغباتك/ اركض بأسرع ما يمكن…/ لأن الصوت المشنوق لا ينطفئ أبداً”.
في المنحى ذاته يصرخ الشاعر الإثيوبي تسيغاي غابري ميدهين: ” أنا الأرض الأولى وأمّ كل خصوبة…/ آه أيها العالم، كيف نسيتَ بسهولة/ أنني نافورتك الأولى؟ “.
يحضر الشجن حضوراً لافتاً في النصوص التي اختارها المترجم المغربي، وهو شجن مضاعف ، فثمة استعادات غزيرة للجراح التي خلفتها مرحلة الاستعباد والاستعمار، وثمة بالمقابل رصد للمعاناة الداخلية للكائن الأفريقي التي راكمها تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بسبب صراعات داخلية حادت بالقارة مراراً عن طريق الاستقرار.
لكن ثمة بالمقابل في نصوص الأنطولوجيا الكثير من الدفء والحميمية والحرارة الإنسانية وأساليب العيش والألوان والروائح والمباهج وتفاصيل الحياة الأفريقية التي تمتاز بخصوصيات يصعب طمسها والقفز عليها.