أزمة كاتبة عربية مقال لـ هيلانة الشيخ

السكة – المحطة الثقافية  

تنتابني رغبةٌ مؤلمةٌ تُلح عليّ بالخروج من نطاق هذا العالم، الخروج عن المنطق، الخروج عن الفكرة، النزوح نحو الحرية، النزوح بعيدًا دون هدف، النزوح عن هذه المنظومة الحقيرة، المنظومة التي شرّعها الإنسان متجردًا من آدميته الأولى؛ أسير ذهابًا وإيابًا في ممرٍ طويل في منزلي – منزلي ممراته كثيرة وطويلة -، أغلق جميع الأضواء والنوافذ متعمدة تحويل المكان إلى عتمة دامسة، أحاول خلق جوٍ كاحل أسود، فقد حفظت قدماي كل شبر في هذا المنزل الذي أمضيت فيه ثلاثين عامًا، ثلاثون عامًا أتجول داخله كالضائعة المشردة لا أدري أين أمدد بدني المرهَق المثقل بأوجاع العالم كلها مجتمعة داخل هذا البدن الصغير الهزيل، شعور غريب لا أفهمه رغبة ملحّة تدفعني نحو الباب والفرار بعيدًا، كأن ماردًا من الإسمنت يغتصبني، يمارس كل أنواع العذاب عليّ بوحشية الصخر وشراسة الحديد! كأن هذا المنزل زنزانة ضيقة جدًا أو حبسٌ انفراديٌّ لا وجود لسواي داخله، رائحة الفراش رطبة متعفنة، شقوقٌ في الجدران تعربد دون خجل طيلة الليل، وإذا طلع النهار احتشم صوتها وترهبنت في صمتها.. أقترب من الباب أفتحه، أتأمل الشجيرات الذابلة حول السور.

أبحث في الأفق عن طائر يقِظ، لا أسمع غير عرير الصراصير، وبكاء الأغصان وتأوهات الجذع المغروس في كوّة الطين، مثليٌّ سافل يمارس ذكوريته في ذكوريةٍ متجاهلًا أنوثة الورق تتساقط عليه..اللعنة أودّ السير في الشوارع خالعة كل ثيابي والجلوس على الأتربة مكوّرةً أداعب جلدي من دون خوف أو خجل، أتخيل نفسي ممدةً نائمةً بجانب سور لمنزل مهجور، أنام وأفيق من حولي القطط، أتبول بينهن وأغتسل ببعض التراب وألعب ببعضه كالحيوانات التي تحفر جحورها لتختبئ عن هذا الزحام، أريد الامتزاج مع هذه الطبيعة الأولية والتخلص من كل شيء مصطنع، المساحيق والعطور والصابون والأحذية والملابس بكل أشكالها وألوانها العاهرة، أريد التجرد للتجرد فقط. وكأني أقاوم رغبةً تدفعني للخروج من كل شيء وعن كل شيء.

كلما اقتربت من الجدار سمعت صوتًا يئن من خلفه، لا أحد يصدقني عندما أخبرهم أن الجدران تتألم مثلنا، تحزن وتبكي وتبتسم أيضًا، أخبرتهم مرارًا أنّي أسمعهم، يرددون طلاسمًا تشبهني، يتنفسون ويدخنون السجائر مثلنا… وفي كل مرة أحاول إقناعهم فيها يسخرون مني. بينما هذا السقف يشبه العظماء يتربع على رؤوسنا، ينبسط فوق أعمدتنا ولو سقط لقتلنا جميعًا.

عندما كنت طفلة كان سقف أحلامي منخفضًا ينحصر على سرير يغطيه شرشفٌ ورديُّ اللون ووسادة ناعمة، وكلما مر عام ارتفع وارتفع ذلك السقف حتى صار ارتفاعه سبعة أمتارٍ تتدلّى منه ثريةٌ طولها مترين! وها أنا اليوم رغم رحابته أشعر كأن جدرانه تطبق عليّ، تقترب مني كلما حاولت النوم، أحملق في سقف هذا المنزل الفسيح فأتخيّل رحابة السماء وأقول: كيف نحجبها بهذه الخرسانات العاهرة؟ كيف اخترع الإنسان مقابر ليُدفن داخلها وحيدًا جاحدًا جمال الأرض البكر؟ كيف أتحرر من هذا السجن وأخرج؟ وإلى أين سأذهب؟ وكم كيلو مترًا سأسير حتى أصل إلى ضفة شاطئ أو براح من الرمال يخلو من هذه البنايات السافلة؛ حاولت مرتين! قطعت مسافة لا بأس بها، كانت النوافذ تراقبني، الشوارع تعرقل خطواتي، أتعثر وأسقط وأعود فأجد الباب مفتوحًا كفوهة جحيم جائع فيبتلعني المنزل من جديد…. أحتاج مسيرة ثلاثين عامٍ أخرى لأتخلص من وجودي هنا، أحتاج شجاعة عصفور يعشق الطيران، أحتاج جرأة صبيّة في العشرين من عمرها لأنتزع جذور الخوف الممتدة في أرضيته الصلبة، أحتاج جرعة من الأمل تحررني من هذا الانهزام.

وبين الثلاثين عامًا ثلاثون ثقبًا يكبرون داخلي، يعبر منهم صوت خافت يناديني: اخرجي بسرعة، اخلعي هذه الجدران عن بدنك، افتحي الباب وارحلي قبل أن يلتهمك الزمن، تجردي، ثقي بخطواتك، سيري دون النظر إلى الوراء، تقدمي بسرعة قبل فوات الأوان، الطريق قصير ثلاثون خطوة فقط … لكن ضجيج الجدران في المنزل أعلى، أصواتهم كثيرة يصرخون بصوت جماعيٍّ عالٍ وبين أصواتهم ضحكات سافلة، لا يصمتون إلّا في منتصف الظهيرة عندما تتعامد على رأسهم الشمس! يتحولون إلى خُرسٍ، فأبدأ أنا بالصراخ: أين ذهبتم؟ تكلموا، قولوا شيئًا، ردّوا عليّ صمتكم يقتلني.. رغم ضجيجهم إلّا أنّي أشعر بالطمأنينة، أشعر بوجودهم، أشرارٌ هم لكن ضجيجهم يحتضن ضياعي، هذا الضجيج وحده يعيدني كلما اقتربت من الباب: اياك، الخروج، ستموتين مبعثرة، دون سقف يخطفك الموت تاركًا بدنك الهزيل عاريًا تلتهمه الأرض، يتقاسمه المشاة، عودي إلى فراشك في انتظار موت رفيع المستوى، موت طويل الأجل والصبر… فأعود.

هكذا يمضي الليل كل ليل، وهذه النوبة من الصرع لا تنتهي حتى يغلبني النوم. في منزلٍ من طابقين وسبعة حجرات وممرات كثيرة وطويلة، وسلالم قديمة، وسقف عالٍ عاهر، وثريا صدأ لونها، ونوافذ ضيقة عليها أعمدة من الحديد الصلب ترتدي ستائر من القطيفة السوداء تشربت الأتربة، والكثير الكثير من المقاعد البائسة والوسائد الذابلة، والأكواب التي تكسرت أفواهها، والرفوف الفارغة والصناديق المغلقة ولم أجرؤ يومًا على فتحها، أعي جيدًا أن فتحها هو نهاية الخروج.

اترك تعليقا

NEW