لم يتبق سوى أن تخصص المنصات الإعلامية الرصينة ومصادر الأخبار التقليدية باباً دائماً وفقرة ثابتة تخصصها لمعول الـ”سوشيال ميديا” المخصص لهدم العلاقات الدولية والموجه لبث الفرقة الإقليمية والمتخصص في التدخل السريع في كل أزمة متفجرة أو شبح حرب تلوح في الأفق بغرض إحماء فتيلها وتسريع اشتعالها والتأكد من تفجيرها وانتشار شظاياها على أوسع نطاق ممكن يتعدى حدود الأثير العنكبوتي.
مياه الصراع العكرة
الأحداث في السودان ليست استثناء. وبعيداً عن كلاسيكيات “أثر تدوينات المواطنين وفيديوهات المارة وإفادات المواطن الصحافي عما يحدث على الأرض” التي أصبحت متلازمة كل حرب أهلية تلوح في أفق “الربيع العربي”، فإن منصات التواصل الاجتماعي، أو بالأحرى كتائب وميليشيات وأفراد ناشطة على هذه التطبيقات وغيرها من بقايا المنصات التلفزيونية التي تم تدشينها قبل سنوات قليلة بهدف النفخ في النيران، تعمل منذ اللحظات الأولى لتفجر الأحداث الدامية لتمضي قدماً على طريق تحقيق الهدف: بث الفرقة ونشر الفتنة والصيد في مياه الصراع العكرة لإحداث شقاق بين مصر والسودان، الدولتين المصنفتين على مدار صفحات طويلة من التاريخ والجغرافيا والعلاقات الاجتماعية والتركيبة الديموغرافية باعتبارهما “شقيقتين” تتفقان وتختلفان بحكم طبيعة الحياة، وتتقاربان وتتباعدان بفعل السياسة حيناً، وتمضيان قدماً في هدوء وتناغم أحياناً، ولا يخلو الأمر من تعثر بفعل تدخلات دولية هنا أو تطفلات إقليمية هناك سرعان ما تنقشع وتعود الأمور إلى أصلها المتناغم.
لكن في عصر إقحام الـ”سوشيال ميديا” نفسها عسى أن تكون مكوناً من مكونات والعلاقات بين البلاد، وقدراتها على توجيه رأي عام العباد، يطل الجانب “الشرير” من منصات التواصل الاجتماعي في كل مصيبة لينفث دخان الفرقة منتفعاً من الأزمة ومغتنماً الكارثة.
ظلال الأثير
كارثة الأحداث في السودان لا تقتصر على ما يجري على أرض الواقع، لكنها تمتد إلى ظلالها على الأثير العنكبوتي، وهي الظلال التي يقتنصها هواة ومحترفو ومرتزقة إشعال الفتنة. مقاطع فيديو وتدوينات فيسبوكية وتغريدات وصور على غيرها من منصات التواصل الاجتماعي يجري بثها على الأثير وكأنها عمليات منظمة تنتظر اللحظة السانحة والفرصة الفارقة من أجل الانتشار.
مقاطع فيديو الجنود المصريين الذين كانوا محتجزين في السودان بعد اندلاع الصراع المفاجئ والمدوي، التي انتشرت انتشاراً فيروسياً ليست المكون الوحيد في جهود إحماء الاحتقان غير المرغوب فيه بين مصر والسودان. لكن طريقة عمل المتصيدين على منصات الإنترنت المختلفة تحت ظهورهم في هذا التوقيت. ووراء كل توقيت غاية، وفي كل غاية رغبة محمومة لإشعال فتنة.
شد وجذب الجنود
فتنة “فيديو” الجنود المصريين، التي أثارت شداً وجذباً على هامش الحدث الأصلي، الذي يتمثل في شبح الحرب الأهلية الذي يحوم بقوة في الأفق السوداني المصحوب بمشاهد مروعة من جثامين في الشوارع وخروج مستشفيات عن الخدمة وقلق وهلع المدنيين من نقص الغذاء. ناهيك عن غد غامض مفتوح على كل الاحتمالات، أعادت تسليط الضوء على أثر السوشيال ميديا في إشعال الأزمات السياسية وإذكاء الفتن العنكبوتية.
مهنة أو هواية إزعاج الناس، والمهام الوظيفية المتمثلة في نثر الكراهية وبث الضغينة وإشاعة الصدع والشقاق تطل برأسها مجدداً. مهارات المهنة أو الهواية تتطلب تقديم محتوى الكراهية والفتنة وكأنه من بنات أفكار “المتصيد” أو “الناشط” أو حتى المتبرع بنشر الكراهية. أزمة الجنود المصريين وفرت أرضاً خصبة للقيام بالمهمة، لا سيما في ظل احتدام الوضع في السودان، واحتقان المشاعر في مصر جراء محتوى فيديو الجنود.
محتوى سريع الاشتعال
تعرف دراسة أكاديمية عنوانها “توقع دور المتصيدين السياسيين في السوشيال ميديا” (2019) فإن متصيدي الإنترنت مستخدمون في مجتمع الـ(أون لاين) مهمتهم العراك والتسبب في إزعاج بقية المستخدمين وإثارة قلقهم، والغرض هو زرع الفتنة عبر نشر محتوى سريع الاشتعال. وفي السنوات الأخيرة بزغ دور ما يسمى مزارع المتصيدين المنظمة المتخصصة في التلاعب بالرأي العام السياسي”.
التلاعب بالرأي العام السياسي في زمن هيمنة منصات التواصل الاجتماعي لا يتوقف عند حدود التأثير على الرأي العام المحلي، بل يمتد ليؤثر في الرأي العام عابراً الحدود. أليس العالم قرية صغيرة يوحدها الأثير؟! وبعد شهر عسل قصير ظنت خلاله البشرية أن منصات التواصل الاجتماعي خير مطلق ومنافع بلا حدود ودمقرطة شعبية محمودة، يطل الوجه الآخر بشروره طيلة الوقت، لكن إطلالته تتكثف ويتفاقم خطرها في أوقات الأزمات والمصائب والكوارث حيث الدق على المشاعر الملتهبة واستغلال المخاوف المتفاقمة يؤتي ثماراً مضاعفة على صعيد الفتنة والكراهية والفرقة.
وتشير الدراسة إلى أن وعد السوشيال ميديا بدمقرطة المحتوى وتمكين المستخدم العادي من المشاركة في صناعته تصحبه محاولات وجهود شريرة عديدة لنشر معلومات مغلوطة وآراء مصنوعة خصيصاً لتكون مشحونة عاطفياً وقادرة على الدغدغة العاطفية لمشاعر الجموع الغفيرة من المستخدمين، لا سيما الواقعين أصلاً في براثن أزمة أو كارثة كبرى طبيعية مثل زلزال أو فيضان أو من صنع الإنسان مثل الحروب والصراعات.
الصراع الذي تفجر في السودان قبل أيام تصحبه تفجيرات عنكبوتية عدة، ومحاولات عديدة من جهات مختلفة يحاول كل منها تحقيق مآرب مؤجلة أو مجهضة أو مجمدة جددت الأحداث أمل إحيائها.
فرصة لمعاودة القفز
منصات عنكبوتية وبقايا مؤسسات إعلامية تابعة لجماعة الإخوان المسلمين وجدت في أحداث السودان الدامية فرصة جديدة لمعاودة القفز وبث ما يسميه البعض “بث سموم الإسلام السياسي” و”النيل من مصر ونظامها وشعبها عقاباً لهما على التخلص من حكم الجماعة”. فما هي إلا ثوان معدودة بعد بدء انتشار فيديو الجنود المصريين في السودان، حتى نشطت هذه المنصات والمؤسسات، وأغلبها ارتدى فجأة ومن دون سابق إنذار جلباب الوطنية المصرية وعباءة “كرامة الجيش”، وهما الجلباب والعباءة المنبوذان والمتقزمان دائماً وأبداً أمام “مانيفستو” الجماعة، حيث الأولوية لمنهجها والأفضلية لتمكين مرشدها وأعضائها.
حجم التغريدات والتدوينات والصور ومقاطع الفيديو التي أطلت برأسها عبر منصات تابعة للجماعة وحسابات لأفراد، وجانب كبير منها يعتقد أنها متصيدة، أخذت على عاتقها الصيد في المياه العكرة لأزمة الجنود المصريين مذهل. وتكرار المحتوى بشكل متطابق من دون تصرف أو اجتهاد يسلط الضوء على كون مصادرها لأفراد حقيقيين يعبرون عن وجهة نظرهم أو أفراد معينين ينفذون مهام وظيفتهم.
نشر الكراهية
وظيفة نشر الكراهية وبث الفتنة بدأ البعض يفهمها في سياقها، محو الأمية العنكبوتية، ونشر الوعي بماهية محتوى الإنترنت بشكل عام ومنصات التواصل الاجتماعي خصوصاً باعتبارها مادة تقبل الصحة أو الخطأ، وكذلك خضوعها للتوجيه أو انصياعها للأهواء والمواقف الشخصية ما زال في مراحله الأولى، حيث نسبة كبيرة من المستخدمين العاديين يجدون أنفسهم أسرى التأثر بما يقرأون أو يشاهدون في أثير حسابات الأفراد، أو من يبدو أنهم أفراد، فما بالك بأثير منصات إعلامية؟
عدد من المنصات الإعلامية التي أثارت الجدل والفرقة على مدار العقدين ونصف الماضية وثلة أخرى منضمة لها في أعقاب اندلاع أحداث ما يسمى “الربيع العربي”، وحسابات لـ”إعلاميين” منتسبين إلى هذه المنصات أصبحت تشكل منظومة عنكبوتية تنشط في المصائب وتنتعش في الكوارث وتزدهر في الأزمات. وأزمة السودان الحالية ليست استثناء، بل مثال فادح على ماهية هذه المنظومة.
عناوين توارد الأفكار
كم مذهل من مقاطع الفيديو التي تحمل عناوين مثيرة على شاكلة، “شاهد ماذا يحدث على حدود مصر الجنوبية؟” “انقلاب في إثيوبيا وحرب أهلية في السودان وجيش مصر يتدخل” و”تفاصيل أسر الجنود المصريين”، وغيرها الآلاف من العناوين يجري صناعتها وتحميلها على مدار الساعة. وبالطبع هناك من يشاهد ويتابع، ويصدق وربما يتشكك، ويشارك ويعلق مساهماً في توسيع قاعدة الانتشار.
هذه المقاطع المصنوع أغلبها بتقنيات الهاتف المحمول تقدم نفسها باعتبارها الشارح المفسر الوافي لما يجري في السودان. وغالباً يتم دس سم الفتنة وإسفين الفرقة بحنكة ودهاء يجعل عبارات مثل “سوء معاملة هذا الشعب لذاك” أو “كراهية ذاك لهذا” أو “استعلاء هؤلاء” أو “تفوق أولئك” أو “هوية الجار المختلفة عن جاره” أو أصولهما غير المتطابقة أو صراعات الحدود المنسية أو علاقات هذا الطرف بتلك القوى الإقليمية على حساب الآخر وغيرها من التلميحات التي تتسرب إلى المتلقي العادي لتبدو كأنها معلومة أو تسرد مموهة في صورة تحليل رصين.
ماذا يحدث في السودان؟
“ماذا يحدث في السودان؟” ليس فقط العنوان الأكثر دلالة على توارد خواطر المنصات الإعلامية التقليدية في كل مكان لشرح ما يجري في السودان بحسب موقع المنصة والدولة التي تعمل فيها من السودان، ولكنه أيضاً عنوان الآلاف من مقاطع الفيديو التي يحلل صانعوها من المواطنين العاديين الصراع الدائر في السودان. بعض هذه التحليلات يندرج تحت بند “ما أنزل الله به من سلطان” من حيث ضبابية الرؤية والتباسها ناهيك عن ادعاء المعرفة والتظاهر بالخبرة. بعض آخر يمكن وصفه بالفبركة أو الكذب سواء بناء على جهل مدقع أو دعاء مفرط. وجزء ثالث هو نتاج إعادة تدوير ما يرد هنا من أخبار وما ينشر هناك من تحليلات ومزجها لتبدو وكأنها منتج أصلي، والأصل منها بريء.
كل ما سبق يمثل مصدراً رئيساً من مصادر المعلومات أو أشباه المعلومات، وفي أقوال أخرى محفزاً أساساً من محفزات الاشتعال والاحتقان سواء في الداخل السوداني، أو بغرض إشعال الفتنة بين السودان وغيره من الدول لا سيما مصر.
حروب السوشيال ميديا السياسية المقصودة للتأثير في الرأي العام اتخذت بالفعل شكل المنظومة. ورغم آثارها السامة وقدراتها على إحداث الاحتقان وتعظيمه، فإنها تظل حروباً منظمة يخضع لاعبوها لقواعد صانعيها. أما المستخدمون الأفراد للسوشيال ميديا الذين يدقون على أزرار أجهزتهم ولا يمثلون إلا أنفسهم، ويغردون ويدونون ويدقون على الأزرار لوجه الله وبغرض التعبير عن الرأي أو الهوية أو الغضب أو القلق أو الأمل أو لمجرد متعة الإدلاء بالرأي فهذا حق أصيل لهم. لكن يلاحظ أن البعض يعاني سوء تقدير في التوقيت، أو قلة حساسية في تقييم الخطر، أو التباس في فهم المقصود بالصالح العام، أو هيمنة الرغبة في التعبير عن الرأي حتى لو كان ذلك على حساب مصائر دول وعلاقات شعوب ومآلات إقليم بأكمله.
استخدام “غير مسؤول”
استخدام السوشيال ميديا الذي يمكن وصفه بـ”غير المسؤول” من قبل البعض في أزمة السودان الحالية يسطر فصلاً جديداً من فصول منصات التواصل الاجتماعي. لم تعد الـ”سوشيال ميديا” محركات ثورات وحركات احتجاج “ربيعية” فقط، كما لم تكتف بدورها غير المعلن كمحرك خفي لتوجيه الرأي العام لنصرة طرف على حساب آخر، وتمردت على الغرض السامي المعلن من كونها أداة تمكين معلوماتي ووسيلة لحرية التعبير للجميع، أو قدرتها على أن تكون أداة سلام ووسيلة حرب، بل تقدم نفسها معولاً من معاول هدم العلاقات بين الدول وفلز إضافي من فلزات إشعال الحمم الوطنية وفيضانات الاحتقان العابرة للحدود. أما الرهان الحقيقي الحالي، فيبقى على رجاحة عقل الشعوب المنكوبة وحسن اختيار التوقيت والظروف في الدول المجاورة. ويطالب البعض بأن تلعب “دبلوماسية المنصات” دوراً في تهدئة الأوضاع لا إشعالها، لا سيما أن السودان ودول الجوار يجمعها التاريخ وتوحدها الجغرافيا وليس من المنطقي أن تفرقها تدوينة شاطحة أو تغريدة جانحة أو طوفان مقاطع فيديو ما أنزل الله به من سلطان.
أمينة خيري صحافية – اندبندنت