محمد خضير يكتب .. رأي في النقد

السكة – المحطه الثقافية – كتب محمد خضير

منذ “الجرجاني” وحتى آخر ورقة نقديّة قدّمها أحدهم بين يديّ قصيدة أو رواية أو قصّة؛ اختلف معنى النقد، وتلوّنت أدواته، وصار له قيمة مرتبطة بصفة العلاقة بين الناقد والمنقود له، فنشأت علاقات حميمية بين الحقيقة والكذب، بحيث التبس على الناس المعنى الأبيض الذي يوضح (عند غيابه) أسباب الظلمة.
رايات النقد بيضاء، ويعتقد بعض المُتناقدين بأن مخالفته للسّائد يمنحه دور الناقد الفحل، فلا هو أصاب هنا.. ولا هناك، لأن استعمال حروف القسوة نقديًا يُحيل القراءة إلى ثارات عربية جاءت من عقدة النقص لدى هذا المُتناقد، أيضًا، استعمال حروف المجاملة مع المكتوب؛ جعلته (أي المكتوب) فاقدًا لمعناه، مُضيّعًا لأدوات تطويره التي تأتينا من الرأي المعرفي الواضح.
يذهب بعض هؤلاء المُتناقدين إلى تغريب مفرداتهم سعيًا وراء إقناع الجمهور بأنهم أصحاب ثقافة موسوعية ومعرفة جاوزت حدود مكتباتهم التي تغصّ بكتبٍ بِكر لم تطأها عين قارئ.. ذهاب المُتناقد إلى استحضار أرواح النقّاد الإنجليز والفرنسيين واللاتينيين دون العبور بمقابرنا العربيّة؛ هو اتكاء منقوص، وتسلّق غير محمود، فلا عالمية لمن لم يدرك رملَ لغتهِ وشؤون قومه. والانتقاص من منجز الآخر؛ هو حرب غير معلنة، جيشها مجموعة مفردات منتقاة من مواقع عدّة، وما لصاحبها دراية بقيمتها غداة تقديمها بين يديّ العمل الأدبي.
عُرّف النقد على أنه تفسير للعمل الأدبي، ومحاولة لكشف مواطن القبح والجمال في الأعمال الأدبية، وما نراه اليوم، هو سَفرٌ إلى موطن واحد من الموطنين، فإما قبحٌ يشوش على القارئ، وإما جمال يهدمُ الحقيقة الشاردة، والسؤال: أما من التقاء للموطنين في العمل ذاته!
لا أريد التشكيك بقيمة النقد، لكنني أشكك في قدرته على تحطيم النص الأدبي، ومحوه من ذاكرة القارئ، لأن اختلاف الأذواق ركيزة أساسية في إشهار عمل أدبي، أو دفنه بعيدًا عن أعين القراء.. وأضرب مثلًا برواية الأمريكي “هرمان ملفيل” التي نشرت في العام 1851 (موبي ديك) ولم تجد أي قبول، فمات كاتبها وهو مصاب بخيبة أمل ونكران، ومع بداية القرن العشرين بدأ النقاد يهتمون بهذه الرواية والكتابة عن جمالياتها حتى أخذت مكانتها بين الروايات العالمية.. ومن الأمثلة العربية، شاعر الأطلال “إبراهيم ناجي” الذي سافر مع شقيقه الى عاصمة النور- باريس- لأجل المساعدة بتسجيله في إحدى الجامعات الفرنسية، ومن ثم طار به إلى –لندن- عاصمة الضباب، لحضور مؤتمر طبي، وأثناء وجوده هناك، قرأ هجوم النقاد الكاسح على أشعاره، وعلى رأسهم طه حسين، وعباس محمود العقاد الذي اتهمه بسرقة الشعر، فأصيب ناجي بخيبة أمل وحزن شديدين، و بينما كان يهمّ بقطع شارع في العاصمة البريطانية؛ دهسته سيارة، نُقل على إثرها الى مستشفى “سانت جورج” وبقي هناك إلى أن تعافى، ثم عاد أدراجه إلى مصر ساردًا قصة حزنه وغضبه من رسائل النقد التي أعمَت بصره، وسببت له الحادث.. مضى الجميع إلى موتهم وغيابهم، ومضت معهم آراؤهم النقدية، وبقيت الأطلال خالدة حتى اللحظة.

اترك تعليقا

NEW