الأسير كميل أبو حنيش من قلب زنزانته يكتب “للسكة ” في رثاء أم عسكر

السكة المحطة  الفلسطينيه – بقلم الأسير الأديب كميل ابو حنيش

لم يتوقف التاريخ يومًا عن تسجيل صفحات مشرّفة عن النساء والأمهات المناضلات، وبعضهن يجري تضخيم أو طمس أدوارهن البطولية لأسباب وغايات سياسية وأيدولوجية، أُنتجت أفلام ومسلسلات وبرامج إعلامية ونُشرت آلاف الكتابات وكتبت القصائد والروايات الأدبية، لأن الحياة الإنسانية تسعى دائمًا للبحث عن النموذج والمثال وتكريسه كمعلم إنساني وتاريخي تنهل منه الأجيال، وسيظل الأدب العالمي منشغلًا برواية “الأم” لمكسيم غوركي التي تلخّص حكاية الأم الروسية المناضلة، بعد مرور أكثر من مئة عام على صدور الرواية، وفي تجربتنا الكفاحية الفلسطينية ستتوج رواية “أم سعد” لغسان كنفاني كأحدى أهم الروايات التي تلخص دور المرأة والأم الفلسطينية في الثورة، ففي كل ثورة وفي كل حرب يكون للمرأة نصيب من البطولة والتضحية والمعاناة، وتزخر تجربتنا المقاومة كفلسطينية بآلاف الأمهات المناضلات اللواتي سطرن مواقف وبطولات استثنائية، ولكن من المؤسف أن حكاية الكثير منهنّ تبقى في الذاكرة الشفوية، ومع الوقت تُنسى هذه الحكايات والمواقف لأنه لا يجري تسجيلها والكتابة عنها إما نتيجة للتقصير واللامبالاة، وإما لغايات ودوافع مختلفة.

الاسير كمال ابو حنيش

 

أم عسكر هي أحدى النساء الاستثنائيات في تجربة النضال الفلسطيني المعاصر، برزت هذه المرأة في نابلس أثناء الانتفاضة الثانية وشكلت نموذجًا كفاحيًا ونضاليًا وإنسانيًا مميزًا يعرفه الآلاف من أبناء شعبنا، لا سيما في مدينة نابلس ومحيطها.
هي المناضلة الكبيرة “نايفة زيد الكيلاني” الملقبة ب”أم عسكر” والمتجذرة من بلدة “ميثلون” قضاء جنين، والمتزوجة في نابلس منذ أكثر من 45 عامًا، والمقيمة في البلدة القديمة طوال هذه الأعوام، ولم يتسنى لأم عسكر أن تنجب سوى ابنتها الوحيدة “فداء”.
برز اسم “أم عسكر” في البلدة القديمة أثناء الانتفاضة الثانية واشتهرت وذاع صيتها بعد أن كرّست حياتها لتكون أمًا لكافة المطاردين من قبل الاحتلال في تلك المرحلة وستغدو لاحقًا أمًا لعشرات الشهداء والأسرى والمبعدين.
أهاتفها من سجني، يُعيدني صوتها إلى سنوات الانتفاضة وذكريات الملاحقة والعمل المقاوم، فأتذكر بيتها المُشرع أمامنا دائمًا، بعد أن ضاق العالم علينا، واشتداد حصار الاحتلال للمدينة وكثرت الاجتياحات والمداهمات والاغتيالات لتبدأ أعدادنا بالتناقص.
كنا ندخل بيتها كأننا ندخل بيوتنا، فتستقبلنا كما تستقبل الأم أبناءها، تقرعنا وتعاتبنا بمودة، نساعدها في إعداد الطعام، ثم تضع الطعام بكل تلقائية وتحثنا على تناول المزيد، تمامًا كما تفعل الأمهات.
كنا جيش من المطاردين من مختلف الفصائل، ازدادت أوضاعنا صعوبة بعد اجتياح السور الواقي في ربيع العام 2002، وبقيت البلدة القديمة بأزقتها وحواريها، أهاليها الطيبون، ملاذًا وحيدًا لمن تبقى منا، يلاحقنا جيش مدجج بأعتى وأحدث أنواع الأسلحة وكان يتعين علينا أن نقاوم ونُطيل أمد المواجهة، رغم تناقص عدتنا وعتادنا، ثم اخذت أعدادنا بالتناقص يومًا بعد الآخر.
ولا يكاد يمر أسبوع إلا ويغتال أو يأسر العدو عددًا منا، وأخذ العدو يلاحق من يقدم بأي خدمة لنا سواء كان مأوى أم طعام أو حتى مجرد مصافحة في الشارع، وفي ليالي الصيف اعتدنا السهر في الأزقة وفوق سطوح البيوت القديمة، نرصد أي حركة للجيش المعادي، ونشتبك معهم كلما حاولوا التوغل داخل البلدة القديمة، أما في الشتاء فكانت أوضاعنا تزداد صعوبة، ففي تلك المرحلة كان يتعين عليك كمناضل أن تخوض صراعًا على كافة الجبهات بدءًا بتوفير مكان للمبيت وليس انتهاءً بتنفيذ عملية فدائية ما بينهما احتياطات وإجراءات ولقاءات ومتابعة الأحداث والتطورات السياسية والأمنية، ومقاومة الجوع والبرد والحرمان من الأحبة.
وفي تلك الأثناء برزت أم عسكر على مسرح الحدث المقاوم لتضرب مثلًا في الأصالة والشهامة والعفوية الثورية والصلابة من دون أن تحفل بالثمن الذي يتعين عليها دفعه، لا أتذكر كيف بدأت عملية استقبالنا في بيتها، تدخل البيت برفقة عدد من الشباب المطاردين فتستقبلك إمرأة صلبة على مشارف الخمسين من العمر، ملامحها تشي بالطيبة والتلقائية والأصالة والحنان وحركات جسدها ويداها لا تُنبئ إلا بالترحيب الحقيقي، وما أن تدخل إلى الداخل حتى يستقبلك وجه زوجها البشوش “أبو عسكر” الذي لا يقل عنها شهامةً وأصالة.
دأبت أم عسكر زوجها على استقبال من دون أي كان أو مقدمات، نعتاد على البيت وحجراته ورائحته التي تعبق بكل ما يذكرنا ببيوت الأمهات، ويوفر لنا جوًا من الدفء والأمان. تسارع أم عسكر لإعداد الطعام أو الشاي والقهوة وباتت مع الوقت تعرف ما يرغب كل واحد فينا، وتهنئنا في كل مناسبة:
“أنتم أبنائي، كلكم أحبتي، لا أميز بين أي واحدٍ فيكم”،
ونحن بدورنا قبلنا هذه الأمومة الصافية ولم نلبث طويلًا حتى اعتاد كل واحد فينا على أم عسكر ومداعباتها ومشاكساتها وحتى تقريعاتها، تستقبلنا في أي وقت من دون أي فزع أو تذمرات، لم تطلب منا يومًا أي طلب سوى الاهتمام بأنفسنا، ونحن من ناحيتنا نحمل الأغراض والحاجيات إلى بيتها كما نحمل ونشتري الحاجيات للأمهات، فتستقبل تلك الأكياس وتسارع إلى مطبخها لتعد الطعام، وفي هذا البيت لطالما التقى الشباب المطاردين بأمهاتهم وزوجاتهم وأخواتهم وأولادهم وسائر أهاليهم وأصدقائهم، فتستقبل الجميع بمودة، ويرتاح الجميع لها وتتوثق روابط علاقاتهم بها.
لم يطل بي الوقت كثيرًا حتى أتعرف أكثر على شخصية هذه الأم الرائعة، إذ دخلت السجن ولم يلبث رفاقي أن أخذوا يتقاطرون على السجن، وراحوا يروون عن أم عسكر بعد أن باتت جزءًا مهمًا من حكاية المقاومة، وسيسجل الرفاق المئات من المواقف البطولية الشاهدة على نقاء وثورية وأصالة هذه المرأة، تلك التي تلتفت يومًا لتهديدات الاحتلال الذين دأبوا على اقتحام بيتها عشرات المرات والاعتداء عليها وعلى زوجها، حيث أُصيبت في إحدى الاقتحامات، وسينسف العدو بيتًا قديمًا لها في البلدة القديمة بذريعة استخدامه كمكان لتخزين الذخائر والمتفجرات، غير أنها لم تكترث ولم تبالي بهذه الخسائر، وواصلت النضال بطريقتها الخاصة باحتضان المطاردين وتوفير ما يمكن توفيره من مستلزمات وكان أهمها على الاطلاق الرعاية المعنوية والعاطفية التي كانت تترك أثرها في الشباب الذين اعتبروها ملهمًا ثوريًا يشد من عضدهم ويشكلون منها ومع سائر العشرات من عائلات البلدة القديمة مثلًا ونموذجًا في المقاومة والتضحية والعطاء.
ويروي الشباب كيف كانت تودع الشهداء بالدموع والزغاريد وتبكي حين يقع أحدهم بالأسر، لا يكاد يمر أسبوع دون سقوط شهيد أو أكثر، ودون وقوع شاب أو أكثر في الأسر، وكان من أكثر الشهداء المقريين إليها نذكر بعضهم : الشهيد يامن فرج، وأمجد مليطات”أبو وطن”، وفادي حنيني، وجبريل عواد، وبشار حنني، وعلاء ضواية، مجدي البحش، هاني العقاد، فادي قفيشة…، وغيرهم الكثير، أما الأسرى والمبعدين منهم يعدون بالعشرات أيضًا، لقبها الشباب “الحجة أم عسكر” وطوال سنوات الانتفاضة وتحديدًا منذ العام 2002م وحتى العام 2006م لم تتردد ولو لمرة في رعاية المطاردين، واستقبال أهاليهم، ولم تتأخر في أية لحظة من الإقدام على أي مهمة مش شأنها أن تقدم خدمة للعمل المقاوم.
أم عسكر، إمرأة شعبية بسيطة ليست متعلمة أو مثقفة لكنها تتمتع بحس إنساني ووطني كبير، في كل سلوك لها يكشف عن استثنائيتها وغيرها.
ويروي لي رفيقي “نادر صدقة” عن العلاقة الوجدانية التي تربطه بأم عسكر، فغادر ابن الطائفة السامرية والذي التحق بصفوف كتائب الشهيد أبو علي مصطفى منذ البداية، لكنه تأخر حتى التحق بالمطاردين في البلدة القديمة، وتعرّف إلى أم عسكر متأخرًا لكنها أول ما رأته، أحبته وميزته عن الآخرين وقالت له:
“صحيح أنني أعامل الجميع كأبنائي لكنك أنت ستكون ابني الحقيقي، سأعاملك كأنني أنجبتك من بطني.”
تأثر نادر بهذه المشاعر، وقبل أن يكون ابنها من دون أي تحفظ أخذت تهتم لشأنه وسط تذمرات واحتجاجات الرفاق فكانت تنهرهم بالقول:
“لا تعصبوا كلكم أبنائي، لكن نادر له محبة خاصة”
وصار لقب نادر الجديد “عسكر” ينادونه رفاقه بهذا الاسم.
توطدت علاقته بأم عسكر، يدخل بيتها ويعانقها ويقبل يدها ورأسها ويساعدها في إعداد الطعام، أما أهله تعارفوا بأم عسكر، باركوا هذه العلاقة الإنسانية ووطدوا علاقتهم بها.
ويروي نادر موقغًا آخر مؤثر، فقد استدعته ذات يومٍ إلى بيتها وكانت قد استدعت ابنتها الوحيدة فداء من بيت زوحها، أجلستها أرضًا قبالة نادر، نزعت الغطاء عن رأس ابنتها وسط دهشة وخجل ابنتها وحيرة نادر وتأثره وهتفت قائلة لفداء:
“هذا اخوك نادر، من الآن فصاعدًت عليك أن تعامليه كما لو كان أخًا لكِ”.
من يومها صار نادر أخًا لفداء، استقبلته في بيتها عدة مرات أثناء مطاردته، ولا يزال يهاتفها ويهاتف أبناءها من السجن.
قد يستغرب البعض، وقد يستعصي على البعض الآخر تقبل ما يجري، لكن من عرف طريق النضال لن يستغرب، فهذه الطريق تهديك أمهات وأخوات وأخوة ورفاق درب لا خصر لهم، فبيت الثورة لا بشبه أي بيت، إنه البيت الوخيد الذي يتسع لكل ما ينطوي على العلاقات الإنسانية لنقية.
كيف أمكن لإمرأة أن تحمل كل هذه الثقافة والزعي المتجاوز للطوائف والأديان والأعراق إلا إذا كانت إمرأة تؤمن بالثورة، وتنحاز لكل ما يرتبط بإحساسها الإنساني، لقد كانت أم عسكر مدرسة من دون أن تعي أنها تقدم رسالة وتبث وعيًا ثوريًا عجزت عن ترجمته العديد من الحركات والأحزاب التي تدّعي الثورية ولا تعرف كيف يمكن لها أن تمارسها.
ويروي لي نادر موقف طريف آخر حدث قبل ثلاث سنوات وحسب، كانت أم عسكر قد ورثت قطعة أرض من أهلها في ميثلون ولأنها تؤمن بأمومتها لنادر، أصرت أن تسجل الأرض باسمه، تأثر نادر حين نقل أهله إليه الخبر على الزيارة، لكنه أرسل لها ألا تقدم على هذه الفعلة، وأن تغض الطرف عن الموضوع، إذا أرادت أن يبقى نادر ابنًا لها.
أين نجد مثل هذه المواقف النبيلة في هذا العالم؟ ففي الوقت الذي ينشاجر فيه الإخوة والأبناء على متر أرض او حفنة من النقود، نجد إمرأة تتمتع بحس إنساني وأخلاقي عميق، تقلق لشأن شابٍ أسير لم يخرج من رحمها، وينتمي لطائفةٍ أخرى، وفي المقابل يرفض هذا الشاب العرض، وإزاء هذا المشهد لا يبقى أمامنا سوى بلاغة الصمت ونحن نتأمل هذا الموقف.
من علّم تلك المرأة هذه الثقافة، ومن أية طينة جُبلت، وأي قيم يمكن أن تعلمها وتلهمها للأجيال، إننا أمام طراز إنساني لا يتكرر كل يوم.
مرت قرابة عشرين عامّا، كبرت أم عسكر وتناهشتها عدد من الأمراض، لا تزال في بيتها، تعيش على ذكرى
أبنائها الشهداء والأسرى والمبعدين، تكتظ الأسماء والصور في ذهنها، اسمها لا يزال يتردد وفي السجون هي المرأة الحاضرة دومًا، وربما الأكثر حضورًا من بين الأمهات، بعد أن صارت جزءًا من حياتنا ومن ذاكرتنا المقاومة، أهاتفها بين الحين والآخر، كما يهاتفها بقية أبنائها، تعرفنا جميعًا مم همساتنا، اصغي لصوتها الذي هو مزيج بين لهجة القرية ولهجة المدينة، لا يزال صوتها دافئًا، حنونًا وصلبًا، ولا تزال تملك حس الدعابة،أسألها إن كان الشباب يتصلون بها، فتبدأ بسرد قائمة طويلة من الأبناء الذين لم ينسوها يومًا، ودأبوا على النواصل معها ومراسلتها، إنهم أبناءها الذين لم تنجبهم، ونسجت معهم حكاية كفاحية فريدة تستحق أن تكتب في صفحات التاريخ.
لا أدري إن زارتها الصحافة يومًا أو حاول أحد الكتابة عنها، أو بقي من يزورها ويتفقد أحوالها، فنحن نحيا في زمن غريب منقلبٌ على رأسه بعد أن تراجعت ثقافة وقيم المقاومة، وفي كل الأحوال يتعين على شعبنا أن يهتم بهذا النموذج، لأنه يمثل لنا أيقونة ونحن نخوض معركة تحرر وطني قاسية.
أم عسكر ليست بحاجة لأحد، ولم تطلب يومًا أي مكسب شخصي تبتذل هذا التاريخ في البحث عن أمجادٍ شخصية، إن هذا الطراز من البشر يقدم واجبه الوطني والإنساني عن طيب خاطر، ولكن من واجبنا أن نكرمها ونكرم أمثالها، وحين نروي عن هذه المناضلة الكبيرة فإننا نقدمها للتاريخ والأجيال كنموذج مقاوم حرٍ وشريف.
من ناحيتي حاولت الكتابة عنها مرارًا، وإلى أن صار بوسعي أن أكتب عنها في أحدى الروايات التي ستصدر قريبًا ومع ذلك لا يزال يساورني ويساور غيري الكثير من مشاعر التقصير بحق هذه الأم الكبيرة.
ام عسكر اسمٌ مطبوع على جبين العزة، والكرامة، و والكبرياء، إمرأة لم تعرف الخوف والفزع يومًا، وقلبها ينبض بالحب والعطاء بلا أي مقابل، إمرأة أحبت وطنها وناضلت بطريقتها الخاصة ولم تتأخر لحظة عن أداء واجبها الوطني.
يا أم عسكر، ابرق لكِ باسمي وباسم كل أبنائك في السجون والمنافي أجمل آيات التحية والمحبة والاعتزاز،
يا أم عسكر..لكِ مجد الغياب ولنا جمر الوفاء؛ لاستعادة بهاء حضورك وطيب سيرتك.

 

مثقفة لكنها تتمتع بحس إنساني ووطني كبير، في كل سلوك لها يكشف عن استثنائيتها وغيرها.
ويروي لي رفيقي “نادر صدقة” عن العلاقة الوجدانية التي تربطه بأم عسكر، فغادر ابن الطائفة السامرية والذي التحق بصفوف كتائب الشهيد أبو علي مصطفى منذ البداية، لكنه تأخر حتى التحق بالمطاردين في البلدة القديمة، وتعرّف إلى أم عسكر متأخرًا لكنها أول ما رأته، أحبته وميزته عن الآخرين وقالت له:
“صحيح أنني أعامل الجميع كأبنائي لكنك أنت ستكون ابني الحقيقي، سأعاملك كأنني أنجبتك من بطني.”
تأثر نادر بهذه المشاعر، وقبل أن يكون ابنها من دون أي تحفظ أخذت تهتم لشأنه وسط تذمرات واحتجاجات الرفاق فكانت تنهرهم بالقول:
“لا تعصبوا كلكم أبنائي، لكن نادر له محبة خاصة”
وصار لقب نادر الجديد “عسكر” ينادونه رفاقه بهذا الاسم.
توطدت علاقته بأم عسكر، يدخل بيتها ويعانقها ويقبل يدها ورأسها ويساعدها في إعداد الطعام، أما أهله تعارفوا بأم عسكر، باركوا هذه العلاقة الإنسانية ووطدوا علاقتهم بها.
ويروي نادر موقغًا آخر مؤثر، فقد استدعته ذات يومٍ إلى بيتها وكانت قد استدعت ابنتها الوحيدة فداء من بيت زوحها، أجلستها أرضًا قبالة نادر، نزعت الغطاء عن رأس ابنتها وسط دهشة وخجل ابنتها وحيرة نادر وتأثره وهتفت قائلة لفداء:
“هذا اخوك نادر، من الآن فصاعدًت عليك أن تعامليه كما لو كان أخًا لكِ”.
من يومها صار نادر أخًا لفداء، استقبلته في بيتها عدة مرات أثناء مطاردته، ولا يزال يهاتفها ويهاتف أبناءها من السجن.
قد يستغرب البعض، وقد يستعصي على البعض الآخر تقبل ما يجري، لكن من عرف طريق النضال لن يستغرب، فهذه الطريق تهديك أمهات وأخوات وأخوة ورفاق درب لا خصر لهم، فبيت الثورة لا بشبه أي بيت، إنه البيت الوخيد الذي يتسع لكل ما ينطوي على العلاقات الإنسانية لنقية.
كيف أمكن لإمرأة أن تحمل كل هذه الثقافة والزعي المتجاوز للطوائف والأديان والأعراق إلا إذا كانت إمرأة تؤمن بالثورة، وتنحاز لكل ما يرتبط بإحساسها الإنساني، لقد كانت أم عسكر مدرسة من دون أن تعي أنها تقدم رسالة وتبث وعيًا ثوريًا عجزت عن ترجمته العديد من الحركات والأحزاب التي تدّعي الثورية ولا تعرف كيف يمكن لها أن تمارسها.
ويروي لي نادر موقف طريف آخر حدث قبل ثلاث سنوات وحسب، كانت أم عسكر قد ورثت قطعة أرض من أهلها في ميثلون ولأنها تؤمن بأمومتها لنادر، أصرت أن تسجل الأرض باسمه، تأثر نادر حين نقل أهله إليه الخبر على الزيارة، لكنه أرسل لها ألا تقدم على هذه الفعلة، وأن تغض الطرف عن الموضوع، إذا أرادت أن يبقى نادر ابنًا لها.
أين نجد مثل هذه المواقف النبيلة في هذا العالم؟ ففي الوقت الذي ينشاجر فيه الإخوة والأبناء على متر أرض او حفنة من النقود، نجد إمرأة تتمتع بحس إنساني وأخلاقي عميق، تقلق لشأن شابٍ أسير لم يخرج من رحمها، وينتمي لطائفةٍ أخرى، وفي المقابل يرفض هذا الشاب العرض، وإزاء هذا المشهد لا يبقى أمامنا سوى بلاغة الصمت ونحن نتأمل هذا الموقف.
من علّم تلك المرأة هذه الثقافة، ومن أية طينة جُبلت، وأي قيم يمكن أن تعلمها وتلهمها للأجيال، إننا أمام طراز إنساني لا يتكرر كل يوم.
مرت قرابة عشرين عامّا، كبرت أم عسكر وتناهشتها عدد من الأمراض، لا تزال في بيتها، تعيش على ذكرى
أبنائها الشهداء والأسرى والمبعدين، تكتظ الأسماء والصور في ذهنها، اسمها لا يزال يتردد وفي السجون هي المرأة الحاضرة دومًا، وربما الأكثر حضورًا من بين الأمهات، بعد أن صارت جزءًا من حياتنا ومن ذاكرتنا المقاومة، أهاتفها بين الحين والآخر، كما يهاتفها بقية أبنائها، تعرفنا جميعًا مم همساتنا، اصغي لصوتها الذي هو مزيج بين لهجة القرية ولهجة المدينة، لا يزال صوتها دافئًا، حنونًا وصلبًا، ولا تزال تملك حس الدعابة،أسألها إن كان الشباب يتصلون بها، فتبدأ بسرد قائمة طويلة من الأبناء الذين لم ينسوها يومًا، ودأبوا على النواصل معها ومراسلتها، إنهم أبناءها الذين لم تنجبهم، ونسجت معهم حكاية كفاحية فريدة تستحق أن تكتب في صفحات التاريخ.
لا أدري إن زارتها الصحافة يومًا أو حاول أحد الكتابة عنها، أو بقي من يزورها ويتفقد أحوالها، فنحن نحيا في زمن غريب منقلبٌ على رأسه بعد أن تراجعت ثقافة وقيم المقاومة، وفي كل الأحوال يتعين على شعبنا أن يهتم بهذا النموذج، لأنه يمثل لنا أيقونة ونحن نخوض معركة تحرر وطني قاسية.
أم عسكر ليست بحاجة لأحد، ولم تطلب يومًا أي مكسب شخصي تبتذل هذا التاريخ في البحث عن أمجادٍ شخصية، إن هذا الطراز من البشر يقدم واجبه الوطني والإنساني عن طيب خاطر، ولكن من واجبنا أن نكرمها ونكرم أمثالها، وحين نروي عن هذه المناضلة الكبيرة فإننا نقدمها للتاريخ والأجيال كنموذج مقاوم حرٍ وشريف.
من ناحيتي حاولت الكتابة عنها مرارًا، وإلى أن صار بوسعي أن أكتب عنها في أحدى الروايات التي ستصدر قريبًا ومع ذلك لا يزال يساورني ويساور غيري الكثير من مشاعر التقصير بحق هذه الأم الكبيرة.
ام عسكر اسمٌ مطبوع على جبين العزة، والكرامة، و والكبرياء، إمرأة لم تعرف الخوف والفزع يومًا، وقلبها ينبض بالحب والعطاء بلا أي مقابل، إمرأة أحبت وطنها وناضلت بطريقتها الخاصة ولم تتأخر لحظة عن أداء واجبها الوطني.
يا أم عسكر، ابرق لكِ باسمي وباسم كل أبنائك في السجون والمنافي أجمل آيات التحية والمحبة والاعتزاز،
يا أم عسكر..لكِ مجد الغياب ولنا جمر الوفاء؛ لاستعادة بهاء حضورك وطيب سيرتك.

اترك تعليقا

NEW