بعد طفرة (Chat-GPT)، التي بشَّر بها كثيرٌ من كتَّاب أدب الخيال العلمي، وحذَّروا منها، ثار بين الناسِ تساؤلٌ عن مصير الوظائف المعقَّدة التي تحتاج إلى (الذكاء البشري)، في مستقبلٍ يحملُ لنا أشكالًا من الذكاء الاصطناعي، سيُعتبر (Chat-GPT)، حين يُقارَن بها لاحقًا، مَحْضَ تقنيةٍ عتيقةٍ محدودةِ القدرات!
المُبَرمجون يرتعدون من ذلك العقل الآلي القادر على ابتكار أكواد البرمجة، والمحامون ينتفضون خوفًا من الروبوتات التي سترتدي الأروابَ السوداءَ قريبًا بدلًا منهم في ساحات التقاضي للدفاع عن المتَّهمين، والمعماريُّون يخشَون اليومَ الذي ستنقطع فيه أرزاقُهم حين يتمكَّن الذكاءُ الاصطناعيُّ من ابتداعِ تصميماتٍ أجمل وأرخص! فما نبأ المدقق اللغوي؟!
هل يقلق المدققون اللغويون هم أيضًا بشأن مصيرهم في مستقبلٍ سيتفوَّق فيه العقلُ السيليكونيُّ على العقلِ المخلوقِ من طين؟
(لغة الضاد) الحصينة!
قد يكون لمدققي النصوص الإنجليزية ما يُسَوِّغ قلقَهم؛ أما أبناءُ الضَّاد، فلا خَوْفٌ عليهم ولا هُمْ يَحزنون!
لا غروَ؛ فاللغة العربية، يا معشرَ المدقِّقين، تستعصي حتى الآن على الذكاء البشري!
أنتم تعلمون أن الذكاء الاصطناعي يرتكز في آليةِ تعلُّمِه على مصادرَ بشرية، أنتجَها ذكاءٌ بشري، لم يتَّفق مستخدموه (إن جاز التعبير) حتَّى اليوم على نَسَقٍ واحدٍ للُّغة العربية مترامية الأطراف، فأنتجوا، اعتمادًا على ذكائهم البشري، نصوصًا، فيها السليم لُغويًّا، وفيها الركيك، وفيها ما يميل إلى مذهبٍ نَحْويٍّ دون آخر، وفيها ما يؤثر الابتداع بدافع التجديد، وفيها ما يمتلئ بالأخطاء الكارثية؛ وكلُّ أولئك كان عند الناشرين وشبكة الإنترنت مَقبولًا! ولن يكتسبَ الذكاءُ الاصطناعيُّ مهاراتِ الاستقراء والاستنباط، التي تُمَكِّنه من التفرقة بين الخطأ والصواب، والمقبول والمردود، إلا إذا تطوَّرَت الحواسيبُ الكموميَّة والبيولوجيَّة؛ وهو أمرٌ لن يتحقَّقَ قبل عَقدين أو ثلاثة عقود، لن يخشى خلالَها أبناءُ الضادِ أذى الذكاء الاصطناعي.
اللغة التي لا يُحيط بها إلا نبي!
لغتُنا العربيةُ يُسرٌ لا عُسْرَ فيها.
هذا قولٌ، مَوَّه به عميدُ الأدب العربي على حقيقة هذه اللغة شديدة التعقيد، ظنًّا منه أنها مَحْضُ “لفظ مُفيد كـ (استقم)”، برغم أن كلَّ من تَبَحَّر فيها، يعلم أنها تُوشِك أن تكونَ صِنوًا لهذا الكون الشاسع — تتمدَّد في دأب، وكلما اطَّلعتَ منها على سِر، تشعَّبَتْ منه أسرار، لا تستطيعُ تتبُّعَ أحرازِها!
اللغة العربية كيانٌ هائل، وعاءٌ مَعرِفيٌّ أعمقُ من المُحيطِ الهادي، منظومةٌ آجُرُّومِيَّةٌ يقصر دونَ الإلمامِ بها الطَّرْف؛ حتى إن الإمام الشافعي -وهو العَلَّامة الفَرْد- قال في (الرِّسَالة):
ولِسَانُ العَرَبِ أوسَعُ الألسِنَةِ مَذهَبًا، وأكثرُهَا ألفاظًا؛ ولا نعلَمُهُ يُحِيطُ بجَميعِ عِلْمِه إِنسَانٌ غَيرُ نبيٍّ.
هذا (الكيان الهائل) لا نزال نستخدمه، بتجلِّيَاتِه كافَّة، وبكلِّ ما استُنبِط منه، من آراء ومذاهب لُغَوية، يُناقض بعضها بعضًا أحيانًا، وذلك تحت راية إمام اللغة العظيم (ابن جنِّي) القائل: “ليس ينبغي أن يُطلَقَ على شيءٍ له وَجْهٌ من العربيةِ قائمٌ، وإن كان غيرُه أقوى منه، أنه غَلَط” — نستخدم هذا (الكيان الهائل) منذ الجاهلية، حتى هذا العصر الذي -شئنا أم أبينا- استطاع فيه الشاعر الفاجر (مؤلِّف مهرجانات حمُّو بيكا)، أن يضيفَ فيه إلى تجلِّي اللغة العربية (المصري/ العامِّي/ الدَّارج) الأخير، ما لم نكن نتخيَّله! وهي إضافات، يَستحيي بعضُ المتزمِّتين من (حُرَّاس اللغة) من إلحاقِها بلُغَة القرآن، رغم أنها -شاءوا أم أبوا- أصبحت جزءًا من هذا (الكيان الهائل)، عليهم أن يتعاملوا مع أشباهه في نصوص المُحدَثين، التي أخذت من التجلِّي العربيِّ الأخيرِ بنصيب.
وأنت، عزيزي المدقق (ابن الضاد)، تعلم جيدًا أنك لا تتعامل مع النَّسَقِ اللغويِّ نفسِه في كلِّ كتابٍ يُوكَل إليك. هنالك أساليبُ شتى، ولكلِّ كاتبٍ ما يُفَضِّله من أنساقِ اللغة العربية، التي تراكمت على مَرِّ مئات السنين. وثمَّةَ أطيافٌ للصَّوَاب، كلٌّ منها يُلائم عصرَه. ووظيفتك، يابن الضاد، أن تدرس جيدًا أسلوبَ كلِّ كتابٍ يَعرِض لك؛ لتوفِّق بين نَسَقِه اللغوي، وبين ما يلائمه من (أطياف الصَّوَاب) المتاحة في اللغة العربية.
الحكمة والذكاء الاصطناعي
الحكمةُ اسمٌ لإحكامِ وَضعِ الشيءِ في مَوضِعِه.
هذا ما قاله (أبو إسماعيل الهروي) معرِّفًا الحكمة. فهل لـ (Chat-GPT) -وَفْقَ هذا التعريف- نصيبٌ من الحِكمة؟
لكي أجيبَ عن هذا السؤال، ينبغي أولًا أن أشرح كيف يُحَاكي هذا العقلُ الاصطناعيُّ ذكاءَ البشر. ولكي أشرح كيف يُحاكي هذا العقلُ الاصطناعيُّ ذكاءَ البشر، ينبغي أن أستطرد استطرادًا مملًّا، سوف يُشتتك حتمًا عن موضوع هذا المقال؛ ولذلك سوف ألجأ إلى (ذكائي البشري) -الذي أتمنَّى أن يكون أعلى من المتوسِّط- وأقترح عليك أن تُصغي جيدًا إلى ما ذكره الباحث الشاب (أحمد الغندور) في إحدى حلقات برنامجه (الدحِّيح)، التي جعل عنوانها: (Chat-GPT).
هل شاهدتَها؟
حسنًا… يمكنني الآن أن أخبرك مطمئنًّا بأن هذا العقل الاصطناعي لا يفقه شيئًا عن مبدأ السببية، وأنه فهم من هذا المبدأ ما فهمه الفيلسوف الإسكتلندي (ديفيد هيوم) منه، حين اعتبر أن العَلاقة بين السبب والنتيجة هي عَلاقةُ تجاورٍ مكانيٍّ وتعاقبٍ زمانيٍّ، لا تَعني بالضرورة أن النتيجةَ تولَّدَتْ عن السبب! بمعنى أن الذكاء الاصطناعي بيجيبها بالشَّبَه (يبدو لي استخدامُ التجلِّي العربيِّ الأخيرِ في هذا المَوضِع أكثرَ فصاحةً!). الذكاء الاصطناعي بيجيبها بالشَّبَه على هذا النحو:
“هذه الكلمة يطَّردُ ظهورُها بجوار هذه الكلمة، في هذا السِّياق، على نحوٍ يفوق معدَّل ظهورها بجوار غيرها من الكلمات، في السِّياق نفسه، وفي المُطلَق… إذًا، لا بأسَ في وضع هذه الكلمة بجوار تلك”.
هذا -بإيجاز شديد- نَهْجُ عملِ هذا العقل الاصطناعي (حتى الآن). آلةٌ تَدرس الأنماطَ المتكرِّرة، وتُحاكيها؛ لكنها (حتى الآن) لا تدري (الحكمة) الكامنة وراء هذه الأنماط، ولا الهدف من المحاكاة، وليس لديها (الوعي بالوعي) الذي يُمَيِّز عقولَ البشر، ويمنحها (حتى الآن) تفرُّدَها.
قد يكتسب الذكاء الاصطناعي (الحكمة) قريبًا، بيُسرٍ، لدى الناطقين بالإنجليزية، ويتمكَّن من مراجعة نصوصها لُغويًّا، بكفاءةٍ تتخطَّى كفاءةَ البشر؛ إلا أن النصوص العربية ستظلُّ حتَّى حينٍ في حاجةٍ إلى عقلٍ بشريٍّ حصيفٍ قادرٍ على أن يُحلِّلها، وأن ينسبَ كلَّ تركيبٍ لُغويٍّ منها إلى أبيه/ عصره.
هل سيتمكَّن الذكاءُ الاصطناعيُّ من فهم ظاهرة التضمين في حروف الجر، فلا يُلَحِّن القائل: “وقد أحسنَ بي” بدلًا من: “وقد أحسنَ إليَّ”، أو يفهم أقوال (أبي جعفر النحَّاس) فيقدر على التفرقة بين (الرُّطَب) مذكَّرًا ومؤنَّثًا، أو يدرك مآلات ظاهرة (تقارض اللفظين) فلا يُخطِّئ القائل: “كما تكونوا يولَّى عليكم” بدلًا من: “كما تكونون…”، أو يتمكَّن من استيعاب أطياف الصواب في قواعد الإملاء؟ لا أحسبه قادرًا على خوض هذه البحار، قبل عشرين عامًا على الأقل.
فلا تقلقوا أيها المدققون… ربما ينتهي العالمُ قبل أن يُزاحِمَكم (أو يَزْحَمَكم — لم أستقرّ بعد على التجلِّي اللغوي الأنسَب!) الذكاءُ الاصطناعيُّ في (لقمة العيش)!