مباهج الانتحار” لسليم بركات متاهة يجتازها القارئ بمتعة

السكة – المحطة الثقافية – بقلم عمر شبانه –

مثلما كان سليم بركات  في مجاميعه الشعرية الأولى، ومنها “الجمهرات”، ورواياته الأولى ومنها “فقهاء الظلام”، وكتابة سيرته الشعرية وقصيدته السيرية كما في “الجندب الحديدي” و”هاته عالياً هات النفير على آخره – سيرة الصبا”، وصولاً إلى روايته الأحدث “مباهج الانتحار الإحدى عشرة وقياس المراوغات في أحوال جلال الدين الرومي” (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 496 صفحة، 2023)، يواصل بركات اليوم الحفر في مناطق أو  أمكنة  جديدة، وجغرافيات بشرية مدهشة، في عملية عصف ذهني وخيالي ولغوي  وصوفي عوالم من كرديته المألوفة، لا مثيل لها في روايتنا.

رواية قوامها الخيال الجامح، واللغة غير المألوفة في تراكيبها وعباراتها، مفردات وجمعاً بصيغة تراثية، كما سنرى في عرضنا أبرز ملامح هذه الرواية ومعالمها الرئيسة، زماناً ومكاناً وكائنات بشرية وحيوانية ونباتية وجمادات.

ابتداء، ومن مناخات غابة سكوغوس، في مملكة السويد، بين عامي 2022-2023، حيث الروائي يكتب “في عزلته” ومنها، نحن هنا حيال روايته “المتاهة”، وفي متاهة الرواية، سوف نتعرف على عوالم بركات الغرائبية الجديدة، منذ البيئة المكانية حيث “شبه الجزيرة الجرداء كلها: رمل بركاني أسود. صحراء سواد. لا شجر. لا عشب. لا نبات.. مناخ جاف طوال السنة.. عمر شبه الجزيرة طاعن في مجهوله”.

هذه البيئة العاصفة، ماء وغباراً وصخوراً سوداء مسنونة، تنتحر فوقها النباتات والنوارس والبشر، كما فعل “إيثيك”، الملك على مملكة إيلانتس (بناها في القرن الرابع قبل الميلاد)، وكما سيفعل “سيكين” بطل هذه الرواية، في واحد من انتحاراته التي يبغي منها “تصحيح خطأ المكان”، ويفشل فيها جميعاً مبرراً فشله بالقول إن “هذا الانتحار لم يعجبني”، ويظل يكرر الانتحار تلو الآخر، والعبارة نفسها، إلى أن “ينتحر” (يتم قتله عمداً) بأيدي ثلاث من الإناث، هن زوجته (دي) وأختها (سيرانا) وابنة الأخت الفتاة (كامين)، يئسن من انتحاره، فقمن بدفعه إلى الهاوية، فيختفي بين الصخور جثة لا أثر لها.

ولكي نترك سيكين يبرر “انتحاراته” المتكررة، ولنتعرف عليه، وعلى شيء من أسلوب الرواية، نتركه يقول “لا أنتحر لأنني حزين، أو محبط، أو غاضب، أو مستاء، أو منهار، أو مكتئب، أو مجروح، أو متعثر الحظ، أو عدمي استنفدت الأشياء معانيها في استقصائه المعاني، أو مريض يكون انتحاره خلاصاً، أو فاشل، أو منصدم، أو منذهل حيرة، أو مستشعر انسداد الأفق، أو محاصر، أو ناكث بوعد لن يفي به، أو هارب من ضعفه، أو مدين ديناً لا مخرج منه، أو خائف من خسارة لا تعوض، أو خائب مخذول”. فإن لم يكن هؤلاء جميعاً، أو واحداً منهم، فلماذا ينتحر إذن؟ الجواب هو أنه يريد “تصحيح خطأ المكان”، ويكرر الانتحار لأنه- كما يكرر ونكرر معه “غير راض عن انتحاره هذا”!

محاور وقضايا

تدور الرواية على عدد من المحاور الأساسية، تراوح بين ما هو حياتي وواقعي وعملي، وما هو وجودي ذو طابع فكري أو فلسفي، أو حتى ديني روحاني/ صوفي غالباً، لكنها جميعاً تغرق في عوالم من العبث، وغلالة سوداء شفيفة من السخرية، وأقنعة من الفانتازيا الموغلة في الخيال والتخييل، في محاولة من مؤلفها لتغريبها عن واقعيتها، ومنحها جميعاً أبعاداً ذات طابع صراعي يبلغ أطراف التراجيديا الكونية، في عمل يقوم على شخوص وحوادث غير طبيعية ولا عقلانية، بصرف النظر عن عمقها أو خفة أطاريحها، فهي في النهاية بشرية إنسانية.

وكما يبدو في عنوان الرواية، فإن القارئ سيكون أمام 11 فصلاً، ومباهج 11 من محاولات الانتحار الفاشلة، غير المرضي عنها، من جانب، ومن جانب آخر يقف القارئ على محطات وظلال من شخصية المتصوف الشهير جلال الدين الرومي، بدءاً من أصوله المتنازع عليها بين فارسيته وتركيته، مروراً بعلاقته الملتبسة مع شمس الدين التبريزي، وانتهاء بمقولاته وخلاصاته الروحانية، وذلك كله عبر حوارات بين شخصيات الرواية، تتناول أجزاء من عمل الرومي “المثنوي” مترجمة إلى لغة المملكة التي تدور فيها حوادث الرواية- المتاهة، وحواراتها الهذيانية، لكنه الهذيان غير المجاني، حتى وإن بدا عبثياً، في كثير من جوانبه، فهو ينتج الأفكار الخلاقة حيال الكائنات والكون والوجود.

وكما يحضر سيكين والنساء الثلاث، ومعهم أصدقاؤهم الكثر ذوو الشخصيات المتمايزة، يحضر الرومي في أحوال ومقامات شتى، من سيرته وأشعاره ومقولاته، حيث تتداخل حقائق السيرة بخيالات الكاتب بركات وتحليلاته وتصوراته ولغته الخاصة، فنكون أمام الرومي الذي يريده لا الرومي الذي نعرفه. الرومي الذي “هرب إلى الله في غرام مستحيل، خوفاً من مطالب جسده، المختبئ في الأشعار..”. أو الرومي الذي “كل بيت من شعره احتراق بنار عشقه الإلهي، تصريحاً أو تلميحاً”، و”كم مرة احترق الفارسي بلهب أشعاره النفطية؟”، و””الشيطان توثيق آسر لرغبة الإنسان في الانفصال عن نفسه، ولرغبته في وجود يتحامى منه أو يحميه.. والخ”. وفي الرواية حديث عما يسميه الكاتب “المثلية الوجودية.. عند الرومي”، وشيء من “مزج الذكورة بالأنوثة في ما يخص الأرواح”، وفي الحديث عن مريدي الرومي فهم من “مراهقي نوادي رقص الشرق الصوفي”، فضلاً عن التنظير حول المولوية والدراويش ورقصهم وتسولهم.. وعن “وشم الغزالة على ذراع صوفيكم الرومي”.. والتعامل مع التصوف كما لو أنه “تدليك روحاني”. وأخيراً يلتفت إلى ثنائية ذكورة/ أنوثة في عالم التصوف، فيرى أن ليس في الشرق متصوفات كالمتصوفين الرجال لا في الكم ولا الكيف. عن مذاهب الصوفيين: ص 461

اترك تعليقا

NEW