لبنان بين السعودية وفرنسا .. لا يؤمن بالضمانات لعدم ثقته بالضامن

السكة – المحطة العربية – د. محيي الدين السحيمي

رعت فرنسا لبنان مع تبدّل نظمه السياسية بشكل دائم، وتقلّب ملامحه المؤسّساتية. كانت مع إدارة لبنان في زمن القائمقاميّتين. وافقت على بروتوكول عهد المتصرّفية. أصبحت بعد ذلك الدولة المنتدبة. أعلنت دولة لبنان الكبير. منحته الاستقلال على وقع الخلاف مع الجانب الإنكليزي آنذاك. ليس لفرنسا أيّ مشكلة مع تغيّر وجه بلد الأرز، فيما المملكة العربية السعودية ثابتة وصامدة مع لبنان العربي.

لم تخطئ المملكة في لبنان، كما أخطأت فرنسا حالياً. لن تدخل في عكاظيّات، وأسواق التسميات المباشرة والشخصانية كما فعلت الأولى. ليس لدى المملكة اسم مفضّل، ولا فرق عندها بين زيد وعمر لرئاسة الحكومة، أو بين شربل وجورج لرئاسة الجمهورية، إلا من خلال عمل العهد الجديد والقدرة التنفيذية والمشروع السياسي.

لن تضع السعودية أيّ فيتو، ولم يصدر عنها أيّ رفض بالمباشر لأيّ كان، وحتى في حقّ الوزير السابق سليمان فرنجية. لم يستفزّها أحد، ولن يستدرجها أيّ طرف. أبعدت عن نفسها رجس الباطنيّات. لم تغرق بوحل السياسة المحلّية، كي لا تدخل في بازار التسوية والمبادلة بين الرموز والسلطات والإدارات.

هنالك ثلاث قناعات سببيّة لدى السعودية تحتّم عليها عدم الدخول مباشرة في الأسماء:

1-احترام سيادة لبنان واستقلاله، والتشديد على أنّ هذا الاستحقاق الوطني شأن داخلي ومحلّي لبناني محض، حيث تؤكّد أنّها المحفّزة والمشجّعة الأولى لأيّ مشهدية توافق بين اللبنانيين تخدم الدولة.

2- تُعتبر الداعم والمساعد الأوّل في لبنان، ودعمها للمصلحة العامّة غير مشروط، ولا علاقة له بالاستثمارات والصفقات التجارية الرخيصة. فهي دولة مانحة تتوخّى مصلحة لبنان الجمهورية، وليست وسيطة انتهازية. يحتّم عليها هذا الموقع أن تكون على مسافة واحدة من الجميع، وهي قريبة من كلّ الأفرقاء المحليين على قدر احترامهم للدولة والدستور والمؤسّسات.

3- قطع الطريق على المساومات المشبوهة، والمبادلات الثنائية المشوِّهة للمنطق الديمقراطي، والزبائنية التفصيلية الصغيرة، التي تحصر الاستحقاقات بعقود رخيصة وأسماء ملغومة.

كيف “تحمي” لبنان؟

عرقلت المملكة طريق ومبدأ المداكشة، ونموذج فرقة الثنائيّات بين رئيس جمهورية ورئيس حكومة. لم تؤمن بالضمانات لعدم ثقتها بالضامن. لقد ضمنوا لها فيما مضى عدم المساس بالرئيس الشهيد رفيق الحريري، وضمنوا أيضاً حكومة الرئيس سعد الحريري، وفي كلتا الحالتين ما جرى هو العكس.

رفضت المملكة ولوج تفاصيل الجسم الوزاري، والاتفاق على التعيينات في حاكمية مصرف لبنان أو المفاصل المالية أو الأمنيّة والقضائية والإدارية التنفيذية العليا، بعكس ما فعلت فرنسا التي تحوّلت أخيراً، بفعل فشل سياستها الخارجية ومبادراتها في لبنان والشرق الأوسط، إلى رئيسة ماكينة انتخابية تسعى إلى إيصال مرشّحها ومرشّح الثنائي الشيعي إلى قصر بعبدا قاطناً لا زائراً، بحجّة عدم وجود مرشّح جدّي غيره. ويعود الفضل في ذلك إلى براعة “فريق المراهقة”، ذلك “التغييري – السيادي”، في السياسة.

تريد السعودية في لبنان جوّاً شفّافاً، يشبه الجوّ السعودي المحلّي الحالي، بدءاً من مكافحة الفساد إلى تطهير الإدارات وترشيقها وريادية الرؤية، وأن يستعيد لبنان تاريخه، ويحصّن حاضره على المسرحين الدولي والعربي، وأن يؤسّس لمستقبله، بما يتناسب مع المبادئ اللبنانية المشتركة المؤسّسة لكيانه.

 

خطايا فرنسا

ارتكبت فرنسا ثلاث خطايا في ما يخصّ الملف اللبناني. ألحقت الضرر المباشر بسياستها الخارجية أوّلاً، قبل أن تضرّ بمصلحة وصحّة المسار التاريخي لعلاقاتها مع لبنان. اضطرّت الولايات المتحدة نتيجة لذلك إلى العودة إلى الساحة من بوّابة العقوبات والرسالات النيابية، وذلك دعماً للسعودية. وكأنّها عادت عن قرارها السابق بتسليم فرنسا وتفويضها كامل الملفّ اللبناني، مع محافظتها على حدود الرؤية السعودية والبيان الثلاثي.

– أوّلاً: تجاوزت فرنسا البيان الثلاثي الصادر من نيويورك عنها مع السعودية والولايات المتحدة الأميركية. وعملت على حرقه لأسباب تجارية والالتفاف عليه لغايات خاصّة. انغمست بتفاصيل السياسة المصلحية مع الجماعات التجارية ورجال أعمال اللوائح السود. هذا ما أجبر أميركا على تحريك ساكنها في الملف اللبناني، والبدء بتسليط الأضواء على “المعرقلين الجدد” للاستحقاقات اللبنانية، ولا مشكلة في البدء بتسميتهم. أعلنت أميركا بهذا التصرّف انتقالها بالملفّ اللبناني إلى مرحلة تعامل مختلفة، وعدم توانيها في مرحلة لاحقة عن فرض عقوبات على “المعرقلين الجدد” للاستحقاقات الديمقراطية وفضحهم. وكانت تلك إشارة امتعاض أميركية واضحة من طريقة التعامل الفرنسية مع أزمة الرئاسة اللبنانية. وتعمل أميركا على حثّ فرنسا على ضرورة عودتها بشكل صريح إلى نص البيان الثلاثي واللقاء الخماسي، والتقيّد بالنظرة السعودية للحلّ اللبناني بشكل كامل.

– ثانياً: وقعت فرنسا في خطأ تفسير الرأي السعودي. شرحته وفقاً لغاياتها النفعيّة الماكرونية، وأهواء فريق الممانعة (الحزب وحلفائه في لبنان). وفسّرت على هواها عدم تدخّل السعودية في الأسماء وعدم تسجيلها الاعتراض على أيّ شخصية بأنّها “نافذة أمل” و”بقعة ضوء” تبيّنان “عدم اعتراضها” على الوزير السابق سليمان فرنجية أو من يدور في فلكه. لخّصت “اللافيتو” السعودي باعتباره دعماً للجماعات السياسية اللبنانية الصديقة لها في لبنان، وإعطاء الحرّية لهم في اختيارهم، وجواز المرور لهم في حرّية دخولهم الصفقات وتكويعاتهم وإقناعهم واستدراجهم بخبث إلى تسميتهم الاسم الذي تسوّق له وإحداث خرق له. في حين أنّ العكس هو الصحيح، حيث إنّ السعودية تشدّد على ضرورة الحلّ اللبناني والتقارب المحلّي لأنّها تشدّد على ضرورة وصحّة انطلاق الحلّ اللبناني والإصلاحي من داخل لبنان وساحته المحلية. إذ إنّ حجر الأساس في استدامة أيّ اتفاق للأزمة اللبنانية هو اتّباع سلوكيّات النهج الإصلاحي المحلّي والمؤسّساتي بشكل حرّ. هذا وتؤيّد المملكة ملاءة الحلّ اللبناني السليم عبر تطبيق الالتزامات والإصلاحات، ومعالجة المسائل بالطرق العلمية المؤسّساتية، التي لا تقبل تجاوز أيّ بند سيادي وإصلاحي. تشدّد على الابتعاد عن الأسماء الاصطفافية والاستفزازية، مع استحالة التعامل مع الفاسدين.

– ثالثاً: قلّصت فرنسا من حجم مكانتها لبنانياً، وقلّلت من وهرتها وقيمتها الخارجية في السياسة الدولية على المسرح العالمي. أصبحت السياسة الخارجية عندها مدار نقاش على ساحتها المحلية أكثر من السياسة الداخلية ذاتها. يعتبرها الفرنسيون خلافية. هي كذلك في باريس إلى حدّ أن تدخّلت الصحافة الفرنسية وانتقدت بشكل مباشر ومزعج الفريق الرئاسي الفرنسي، مسجّلةً اعتراضها على الفكر السياسي الخارجي للرئيس ماكرون، وخاصة في لبنان.

لن تتدخّل السعودية بالاستحقاق الجمهوري، فهي مع التوافق الدائم في لبنان. ولا يوجد مجال، بحسب الظرف، لأن يفرض الثنائي الشيعي مرشّحهما في لبنان كما في السابق. لا يحظى مدلّلهما بالإجماع. يلقى معارضة شرسة، حتى من أبناء جلدته المسيحية. حيث إنّ في وصوله مؤشّراً كبيراً إلى المضيّ قدماً نحو الجزء الثاني من عهد جهنّم، الذي يخشى اللبنانيون أن يهدّد شكل الدولة والدستور ووثيقة الوفاق الوطني “الطائف”. لا يوجد مجال للعودة إلى اتفاق الدوحة، وليس هنالك أيضاً أدنى إمكانية لإعادة العمل بخطيئة الثلث المعطّل المفتّتة لصيغة الدولة الحقيقية “المناصفة”.

أخطأت فرنسا في تبنّيها مرشّح ثنائية “دون كيشوت” 7 أيّار غير المجيد، ومرشّح أصحاب اليوم الأسود للعاصمة بيروت. ترتكب خطيئة أيضاً في استمرارها بتسويق مرشّح الثنائية المفتّتة للدولة، مرشّح الدولة الموازية واقتصاد الظلّ والجيش الرديف. تجعل فرنسا من نفسها عبر سياستها الخارجية الحالية طرفاً في لبنان، وهو ما لا تريده أطراف فرنسية ولبنانية كثيرة. فهنا تكمن إمكانية خسارتها وضعيّتها المميّزة، على افتراض أنّها تقدّم نفسها وسيطاً محبّباً ونزيهاً. وعلى المرشّح الرئاسي الإدراك أيضاً أنّ المشكلة لا تكمن في إعطاء الضمانات بل في القدرة على الالتزام بها.

في الخلاصة… فرنسا ترتكب “الخطايا” في حقّ لبنان، والسعودية مازالت تحاول أن تعطيها بوصلة الصواب.

اترك تعليقا

NEW