لم تعمّر ماري ماكارثي حتى تشهد بأم عينيها السقوط النهائي للأنظمة الاشتراكية في شرق أوروبا، لكنها عاشت من السنين ما يكفي لجعلها تشهد تحقق العديد من توقعاتها، هي التي كانت من بين أولئك الكتاب الذين لم يكفوا منذ أواسط القرن العشرين عن الحديث عن مجتمعات تنهار فيها إنسانية الإنسان وتهجم فيها الهجمية على العالم، وتنتصر الغرائز على الأفكار، والبلاهة على الذكاء. صحيح أن ماري ماكارثي لم تكن من أنصار بلدان المنظومة الاشتراكية، غير أن سقوط الأنظمة الشيوعية في بلدان تلك المنظومة كان من شأنه، لو عاشت حتى شهدت اكتماله، أن يحزنها لمجرد أنه يترك الولايات المتحدة وحدها في الميدان – قوة عظمى يتآكلها في الداخل كل ذلك الدود الذي ينخر جسدها، والذي شكل الحديث عنه واحداً من هواجس ماري ماكارثي. ولافت في هذا المجال أن تكون هواجس هذه الكاتبة قد استبدت بها إلى درجة حرمتها من أن تطلق العنان لخيالها الأدبي، فكانت النتيجة لجماً لملكة الإبداع لديها لحساب الكتابة عن الظواهر الاجتماعية وتحري جذورها ونتائجها، أو هذا على الأقل ما كان يقوله زوجها الناقد الكبير إدموند ويلسون، الذي يعود إليه الفضل الأول في الكشف عن مواهب ماري ماكارثي، منذ اللحظة التي سجنها فيها داخل غرفة، ذات يوم، وأرغمها على كتابة روايتها الأولى.
صداقة حنه آرندت
مهما يكن فإن ويلسون كان واحداً من اثنين أثّرا في حياة ماري ماكارثي وأفكارها، أما الثاني فكانت المفكرة الكبيرة حنة آرندت التي ارتبطت بصداقة عميقة معها، ووجهتها ناحية التفكير في قضايا المجتمع وظواهره، وتكريس جزء كبير من مقدرتها الأدبية للتعبير عما استنتجته من ذلك التفكير. وماري ماكارثي التي رحلت عن عالمنا ذات يوم من خريف عام 1989 كانت قد ولدت قبل ذلك بسبعة وسبعين عاماً، أي في 1912، في مدينة سياتل الأميركية، وتلقت دراسة ثانوية عادية قبل تخرجها من كلية ناسار (التي وصفت الأجواء الدراسية والاجتماعية فيها وصفاً رائعاً في روايتها “المجموعة” التي حولتها هوليوود إلى فيلم شهير في سنوات السبعين). وبعد تخرجها من تلك الكلية، راحت ماري ماكارثي تدرّس الأدب في الوقت الذي صارت فيه نجمة أساسية من نجوم الحياة الثقافية النيويوركية، حيث تزعمت جماعة الكتاب الليبراليين واليساريين المتحلقين من حول مجلة “بارتيزان ريفيو” بالتناقض مع الحلقات الأخرى المتحلقة من حول مجلة “نيويوركر”. ومن المعروف أن ماري ماكارثي كانت من أكثر أفراد مجموعتها حيوية ونشاطاً.
زمن الخيبات الكبرى
غير أن بدايات انكشاف القمع الستاليني ثم الميثاق السوفياتي – الألماني في ميونيخ، سببت لها خيبة شديدة. بيد أن تلك الخيبة جذّرت مواقفها بدلاً من أن توقعها في وهاد اليأس، ولقد تجلى هذا على وجه الخصوص في توجهاتها الأدبية، حيث – بأسلوبها الساخر ولغتها البسيطة – عرفت كيف ترسم صوراً ساخرة وجارحة للمجتمع الأميركي، صوراً تمكنت منذ وقت مبكر من أن تكشف عن الكثير من عورات ذلك المجتمع. غير أن سلاطة قلم ماري ماكارثي المتضافرة مع سلاطة لسانها، لم تطاول أعداءها الفكريين فقط، بل طاولت حتى أصدقائها ورفاقها، كما يتجلى في روايتها “المجموعة” التي تبدو أشبه بسيرة ذاتية، وفي قصصها العديدة، لا سيما منها مجموعة “الواحة” حيث تسخر ماري ماكارثي من نضالات يساريي الصالونات حين يتجابهون مع الواقع المرّ، وتكشف في الوقت نفسه عن همجية عصر السياحة وإفساد البيئة.
مجابهة التاريخ الراهن
لقد نال أدب ماري ماكارثي نجاحاً كبيراً، غير أن أهمية هذه الكاتبة تجلت بشكل خاص من خلال كتابتها المريرة التي جابهت فيها اللحظات الأصعب في التاريخ الأميركي الحديث، وبخاصة لحظات فيتنام وووترغيت. إذ، في هذا المجال، معروف أن الكتاب الذي وضعته ماري ماكارثي ضد الحرب الفيتنامية خلال مرحلة تصاعد العدوان الأميركي على فيتنام، اعتبر أكبر كتاب تحريضي قرأته الشبيبة الأميركية المناهضة لتلك الحرب وتأثرت به. أما الكتاب الذي وضعته عن فضيحة ووترغيت، فكان الكتاب الذي أطلع الأميركيين أكثر من غيره على خلفيات تلك الفضيحة وأسهم في تعزيز الضغط الشعبي والنفسي الذي أدى بالرئيس ريتشارد نيكسون إلى الاستقالة، علماً أن الكاتبة ركزت في ذلك الكتاب على فكرة تقول إن أحداث ووترغيت لا يمكن اعتبارها استثناءً في التاريخ الأميركي المعاصر بل هي جزء أساسي من منظومة الحكم، أما افتضاحها فهو الاستثناء.
تأثيرات أساسية
ونعرف على أية حال أن ذينك الكتابين، الأول عن فيتنام والثاني عن ووترغيت، مارسا أكبر قدر من التأثير على فكر الفيلسوفة الألمانية – الأميركية حنه آرندت التي ستضع على أية حال كتابها الذي صدر في العربية تحت عنوان “في العنف” مع أنه يحمل في الأصل الإنجليزي عنواناً مختلفاً يتعلق بالأكاذيب التي أطلقتها السلطات الأميركية، العسكرية خاصة، بصدد تورطها في الحرب الفيتنامية وعرفت صحافياً باسم “أوراق البنتاغون” – ولسوف يحقق المخرج ستيفن سبيلبرغ لاحقاً فيلمه “ذا بوست” الذي يتناول ما قامت به صحيفة “واشنطن بوست” من فضح لتلك الأوراق -. والحال أن من يقرأ كتاب “في العنف” لآرندت لن يفوته أن يلاحظ مقدار ما تدين به هذه الأخيرة لصديقتها ماكارثي، التي ستعتبر دائماً من أكثر الكتاب الأميركيين الليبراليين – اليساريين فضحاً لتلك الحرب الفيتنامية وليس طبعاً من موقع ديماغوجية سياسية ظرفية كما كانت حال كثر من أولئك الكتاب، بل من موقع تحليلي صارم يسبر غور جذور القضية الفيتنامية في عمق أيديولوجية التدخل الأميركي، العدواني غالباً في رأيها، في شؤون العالم “الخارجي” في وقت كان الخيار مطروحاً أمام الأميركيين بين العزلة والانفتاح على الخارج مهما كان الثمن. وكانت ماكارثي ترى أن الثمن كان باهظاً في الحالتين، لكن المشكلة ليست هنا، بل في الاختيار المتعلق بنوعية التدخل الخارجي وبأي هدف.
ففي عمق الأمور تلاحظ ماكارثي مثلاً كيف أن تدخل الأميركيين في الحرب العالمية الأولى أدى إلى الحد من هول المجزرة التي كانتها تلك الحرب في أوروبا خاصة، وبالتالي “كان تدخلاً منطقياً مهماً سيكون ثمنه الذي دفعته أميركا باهظاً”، وكذلك الحال بالنسبة إليها كان التدخل الأميركي التالي في الحرب العالمية الثانية – والذي “ربما يمكننا القول إن أميركا قد أُرغمت عليه عبر فخ نصب لها وتجلى خاصة في مجزرة “بيرل هاربور” التي اعتدى فيها اليابانيون على الجسد والروح الأميركيين فما كان يمكن لأميركا إلا أن ترد متدخلة بعناد من قبل الرئيس روزفلت، تدخلاً مشروعاً حتى وإن كانت قد دفعت الثمن غالياً هنا أيضاً…” كما تضيف الكاتبة -. وفي المقابل، أي في مقابل هذين التدخلين اللذين رأت ماكارثي، في كتاباتها عن فيتنام، أن لهما مشروعية تبررهما، رأت أن ليس للتدخل الأميركي في فيتنام أي تبرير وأية مشروعية.
على حساب الإبداع
ويمكننا أن نقول هنا أن ذلكم كان على أية حال الموقف الذي استعارته حنه آرندت وكثر من كتاب أميركيين وغير أميركيين آخرين وقفوا ضد الحرب الفيتنامية منددين بالسلطات المتعاقبة التي خاضت تلك الحرب “خوضاً مجانياً” وحدث هنا، على عكس ما حدث في التدخل خلال الحربين العالميتين حيث كان الانتصار مكافأة للتدخل الأميركي وإنقاذاً لأوروبا والعالم: حدث أن كانت الهزيمة في فيتنام قدراً أميركياً لا مهرب منه. مهما يكن فإن كثراً سوف يقولون عن ماري ماكارثي إنها كانت في مجمل مواقفها السياسية على حق، حتى ولو تأخر ظهور ذلك بحيث كان يبدو أول الأمر مجرد استفزاز ومشاكسة؛ ولكن لن يفوت هؤلاء أن يشيروا، كما فعل إدموند ويسلسون الذي سيبقى صديقاً لها بعد انفصالهما وواحداً من كبار المعجبين بقلمها، أن يشيروا أنه كان من سوء طالعها أن تستشري الأمور السياسية المثيرة لغضبها فتسرق منها ساعات وأياماً وأسابيع كان من الأجدر بها أن تملأها إنتاجاً إبداعياً لا شك أنه ضاع برحيلها عن عالمنا غاضبة مشمئزة…
إندبندنت