وسط عمارات ومساكن ومنشآت أسمنتية كثيفة في عديد من شوارع المدن الكبرى في المغرب ، بدأت تبزغ جدران بنايات تتخذ شكلاً آخر، إذ تتزين بألوان زاهية تكسر رتابة المدينة وتبث الدفء في برودة مواد البناء.
انتشرت أخيراً ظاهرة الجداريات الفنية الضخمة في المدن الكبرى والسياحية بالمغرب، مثل الرباط والدار البيضاء وأصيلة ومراكش وأغادير وغيرها، الشيء الذي يعتبره مهتمون بالمجال الحضري ضرورة جمالية وبصرية بعيداً من كل ترف أو تسلية.
مواضيع الجداريات
لا يكاد المار في شوارع مدينة كبيرة مثل الرباط أو الدار البيضاء أو غيرهما بالمغرب إلا أن تثير انتباهه جداريات ضخمة عبارة عن رسوم وأشكال فنية جميلة رسمها هواة أو محترفون على جدران شاهقة العلو في المحاور الرئيسة لهذه الحواضر.
وعلى مبان وجدران يبلغ طولها أحياناً عشرات الأمتار، يعكف رسامون ورسامات أيضاً على تزيين هذه الحيطان الجامدة وبعث الروح فيها برسوم ضخمة وأشكال هندسية بديعة، تتناول عدداً من المواضيع المختلفة.
وهناك جداريات تحمل رسوماً تحيل إلى جمال الطبيعة من أشجار وبحار وسماء وألوان زاهية، وأخرى تهم المرأة البدوية المكافحة، وثالثة ترمز إلى النساء الأفريقيات، وجداريات تحيل إلى “رسوم الكارتون”، وأخرى مثلاً تشيد بجهود الأطباء في زمن كورونا، وغيرها من التيمات والأفكار.
يقول في هذا السياق سعد سيمو، أحد رسامي الجداريات الفنية، إن إنجاز جدارية فنية ضخمة عمل يتطلب جهداً كبيراً وصبراً وتؤدة حتى يخرج العمل في أبهى حلة، ذلك أن الرسم في مساحة واسعة ليس مثل الرسم في لوحة قماش صغيرة الحجم.
ويضيف سيمو أن “إنجاز جدارية ضخمة يتطلب التركيز في الرسم طوال أيام متتالية، وأيضاً توفير المستلزمات اللوجيستية مثل الآلة الرافعة وغيرها”، مشيراً إلى أنه “يفضل شخصياً الاشتغال على بورتريهات الأشخاص في جدارياته الفنية”.
جداريات العاصمة
في العاصمة المغربية الرباط وخلال الفترة بين الـ18 والـ28 من مايو (أيار) الجاري، تنعقد الدورة الثامنة للمهرجان الدولي “جدار الفن”، يتم خلاله إنجاز تسع جداريات فنية ضخمة من توقيع تسعة فنانين ورسامين ينحدرون من خمسة بلدان.
وهؤلاء الفنانون ذوو التجربة في مجال فن الشارع الدولي هم: تيلمو ومييل وسيباس فيلاسكو وإليزا كابدفيلا وبيزت وأليغريا ديل برادو وميد ومريم بنكيران وماشيما، ينحدرون من هولندا وإسبانيا وبولندا والمكسيك والمغرب.
ويفيد منظمو المهرجان بأنه على مدار تسع سنوات من وجوده تغير وجه العاصمة بفضل أزيد من 100 لوحة جدارية فنية من إنتاج عديد من الرسامين المغاربة والأجانب، حولت الرباط إلى “مركز فني حضري مفتوح”.
ووفق الموقع الرسمي للمهرجان “أصبحت المدينة الآن جزءاً من الحلبة الدولية لفن الشارع، وباتت تجذب فنانين من جميع أنحاء العالم”، مضيفاً أنه “مع مرور الوقت ساعد المهرجان في بناء نظام بيئي حقيقي، ليس فقط في إعادة اللون إلى جدران العاصمة، بل في نشر فن الشارع بجميع مكوناته”.
أنسنة الفضاءات العمومية
يعلق الباحث المغربي محمد شقير على الموضوع بالقول إن الجداريات الفنية التي أصبحت تزين واجهات بعض العمارات السكنية أو البنايات تعكس رغبة السلطات المحلية في بعض المدن الكبرى في أنسنة الفضاءات العمومية اقتداء ببعض المدن الأوروبية، إذ تم الاتفاق مع رسامين شباب في التعبير عن مواهبهم بشكل علني وفي الهواء المطلق.
ولفت شقير إلى أن هذه الجداريات تكون مرفوقة بفنون الشارع من عروض مسرحية تعرض ببعض الساحات في استرجاع لفن “الحلقة” التي كانت معروفة في هذه المدن، كما أنها استمرار للعروض الموسيقية التي تقام في الساحات العمومية.
وجواباً عن سؤال يتعلق بمدى اعتبار هذه الجداريات ترفاً فنياً، شدد شقير على أن “هذه الجداريات الفنية لا يمكن اعتبارها ترفاً فنياً أو فكرياً، بل أصبحت ضرورة بالنظر إلى اكتساح الأسمنت للمدن الكبرى وتقلص الفضاءات الخضراء”.
واستطرد بأن “مهرجان أصيلة الذي يستضيف رسامين من دول العالم لرسم جداريات في أنحاء هذه المدينة يشكل بلا شك النموذج الأمثل الذي بدأ تعميمه على مختلف المدن، مما يشجع على تعويد ساكنة المدن على مشاهدة الجماليات الفنية، بدل العيش بين الأسمنت والتلوث والضجيج.
واستدرك شقير بأنه “يتعين في المقابل العمل على تبييض وصباغة منتظمة للواجهات الأمامية لمختلف البنايات والمرافق الإدارية والعمارات السكنية، مما يزيد من إضفاء جمالية خاصة على هذه الجداريات”.
نشر قيم الجمال
من جهته يرى الكاتب والفاعل المحلي بمدينة الدار البيضاء مصطفى لغتيري أن هذه المدينة الضخمة صارت تعرف إنشاء بعض المساحات الخضراء وفضاءات خاصة بألعاب الأطفال، علاوة على الجداريات الفنية التي تعد ظاهرة صحية تسعى إلى نشر قيم الجمال في الشارع، وتضفي على أحياء المدينة بعداً فنياً وجمالياً كبيراً.
وقال لغتيري إن عدداً من الشباب الموهوبين استغلوا جدران أحيائهم لتحويلها إلى لوحات فنية بوجوه تعبيرية تنبض بالحياة، التي غالباً ترمز إلى الأصالة والهوية المغربية، كما تنفتح أحياناً على تعبيرات عالمية تنتمي إلى عالم الفن والموسيقى عموماً.
وأضاف أن “هذه الجداريات التي ترتاح لها العين وربما تسافر بالخيال في عوالم مجنحة وتفتح باب التأويل الفني على مصراعيه، هي أفضل بكثير من اللوحات الإشهارية النمطية، التي تستخدم الخدع التسويقية، خصوصاً استغلال جسد المرأة والطفولة من أجل تحقيق مكاسب مادية بحتة”.
وخلص لغتيري إلى أن “الاهتمام بالبعد الجمالي للمدن من خلال جداريات تشكيلية يعد خطوة في الطريق الصحيح في انتظار التصالح مع الكتاب والوسائل التثقيفية الأخرى، إذ إن المأمول أن يكون للكتاب حضور قوي في الفضاءات العمومية، مثل محطات الحافلات والمترو والقطار”.