قراءة في سيرة الشاعر أمل دنقل .. مقال لـ محمد حضير
- Alsekeh Editor
- 29 مايو، 2023
- المحطة الثقافية
- 0 Comments
السكة – المحطة الثقافية – نقد
سيرةُ الشاعرِ مُربكةٌ، كأيِّ قصيدةٍ هاربةٍ مِن عِقالِ العاديّةِ إلى الجنونِ، فكيف بنا ونحن نأتي على سيرةِ شاعرٍ مِصريٍّ صعيديٍّ قوميٍّ عروبيٍّ، هو شاعرُ الرَّفضِ “أمل دنقل” الذي وُلد في العامِ 1940 ألفٍ وتسعمائةٍ وأربعين، لأسرةٍ صعيديةٍ سكنَت قريةَ القلعةِ القريبةِ من قِنا في صعيدِ مصر… قَدِمَ أمَل إلى الحياةِ مخالفًا للأعراف؛ حتى في اسمِهِ الذي حَمَلَهُ غداةَ حصولِ والدِهِ الشّاعر على إجازةٍ عالميّةٍ، وهي أعلى مؤهِّلٍ دينيٍّ أزهريٍّ يتصلُ بدراسةِ اللغةِ العربيةِ والعلومِ الشرعيةِ، عدَّها والدُهُ أملًا للعائلة.
فهُوَ “محمد أمل” فهيم أبو القسّام محارب دنقل، رحَلَ والدُهُ مبكرًا، وأمَل لم يغادر العاشرةَ بعد، وكان لهذا الفقدِ انعكاسُه على شِعريّةِ أمَل وحياتِهِ الاجتماعيّة، فقد غدا أبًا طفلًا لعائلةٍ من شقيقةٍ لم تُجاوز الرابعةَ من عمرِها، وأخٍ في عامهِ الأوَّل، وأمٍّ حزينةٍ لا تقوى على مقارعة الأرض والغياب.. أنهى أمَل الثانوية العامة في قِنا قبل أن يرتحلَ إلى القاهرة ليدرُسَ الأدبَ هناك… لكنه آثرَ العملَ على الدراسةِ في أولِ سنة، وسرعان ما أحالته المدينة إلى بدويٍّ متسائلٍ مصدوم… وفي العام 67 سبعة وستين بكى بين يدي زرقاء اليمامة وهو يشاهدُ أحلامَ العروبةِ تائهةً في نهارات الهزيمة، فأطلق ذائِعتَهُ “لا تُصالح” التي نابَ فيها عن كل مصريٍّ وعربيٍّ عنَت عيناه إلى انتصار يُشفي الغليلَ المؤجَّلَ… وبعد عقدٍ واحدٍ لاحقته آثارُ معاهدةِ السَّلام، فأصدرَ مجموعتَهُ “العهدُ الآتي” التي أوضَحت موقفَ أمَل من عمليةِ السّلام، وكانت سببًا في وضع اسمِه على قائمة لم تكن بيضاء؛ ساعدت هذه القائمة على نشرِ أشعارِهِ التي ردَّدَها المتظاهرون في شوارع الرَّفضِ آنذاك…
صدرَت له ستُ مجموعاتٍ شعريةٍ هي:
- البكاءُ بين يدي زرقاء اليمامة – بيروت
- تعليقٌ على ما حدث – بيروت
- مقتلُ القمر – بيروت
- العهدُ الآتي – بيروت
- أقوالٌ جديدةٌ عن حرب البسوس – القاهرة
- أوراقُ الغرفةِ 8 – القاهرة 1983
والعنوانُ الأخيرُ، يَشي بأحداثِ الغرفةِ رقم ثمانية التي ضمَّتْ أوجاعَه وتنهداتِه لسنواتٍ ثلاث داخلَ المعهدِ القومِيِّ للأورام، كان هذا عندما أُصيبَ أمَل بمرضِ السَّرطان، وربَّما اختصَرَ دنقلُ الحكايةَ في قصيدتين، الأولى عنوانُها “السرير”، والثانيةِ “ضدُّ مَن؟”، ولمْ يسترِح منه الشِّعرُ حتى حسبهُ “أحمد عبدالمعطي حجازي” بأنه “صراع بين متكافئين.. الموتُ والشعر”… وفي آخر قصيدةٍ له أحالَ الجهةَ إلى عُنوانٍ يَحفظُ له حقَّ الإقامةِ في ذاكرةِ مُريديه، فأطلقَ عليها اسمَ “الجنوبيّ”، ولم يكتب بعدها، لأنَّ الموتَ أسكتَ لسانَهُ صباح السبت 21 أيار/مايو من عام ِ1983، ألفٍ وتسعمائة وثلاثةٍ وثمانين، كان إلى جانبهِ في الغرفة رقم “8” ثمانية، صديقُهُ الأثيرُ الخال عبدالرحمن الأبنودي وجابر عصفور، وزوجتُه الصحفيّة “عبلة الرويني” التي تزوّجها في العام 79 تسعةٍ وسبعين، وعاشت معه حتى وفاته، أربع سنوات كانت تكفيها لتكتبَ سيرتَه في كتابها الموسوم بـ “الجنوبيّ”، وفيه تُثبِتُ أنَّ أمل دنقل كان مختلفًا في كل شيء، حتى في ليلةِ زفافِه؛ حين رفض الرُّكوبَ مع عروسِه في سيارةٍ زيّنتها الزهور، فحمَلَها في سيارةِ أجرةٍ وسَط اندهاشِ مَن لا يعرفونه… هذا هو أمل دنقل الشاعرُ الذي منَحَ المكتبةَ العربيةَ قصائدَ كانت أطول عمرًا من كاتبِها الذي رحلَ عن ثلاثٍ وأربعين سنةً فقط.