اخناتون ونفرتيتي.. أقدم قصّة حب ملكية
- Alsekeh Editor
- 30 يونيو، 2023
- المحطة الثقافية
- 0 Comments
السكة – المحطة الثقافية – بقلم اسامة الرحيمي
—————————————-
الجميلة أتت وابن آتون المحبوب..
يا مشرق أنت
قَوّي أذرع الملك
وامنح السرعة لأقدامه
منذ أن أسّست الدنيا وأنشأتها لأجل ابنك
الذي نشأ من بدنك. ملك القطرين المصريين «نفر خبرو رع ـ أوان رع»
ابن رع الذي يعيش من ماعت. سيد التيجان. اخناتون. كبير في حياته.
والملكة الزوجة العظيمة «نفرتيتي» التي يحبها ملك القطرين
تبقى حيّة وشابة دائما وإلى الأبد»
هذا المقطع من «ترنيمة آتون»، كما يظهر مكانة «اخناتون» ملك القطرين، وابن رع، وسيد التيجان. يُظهر إلى جواره المكانة السامية للملكة «نفرتيتي»، «سيدة قلب» الملك «اخناتون» أو «أمنحوتب الرابع» (الأسرة 18 القرن الرابع عشر قبل الميلاد)، وزوجته التي تمتعت بمكانة رفيعة في حياته، ولُقّبت بـ «الزوجة الملكية العظيمة»، و«سيدة المنطقتين»، و«سيدة مصر العليا والسفلى»، وظهر اسمها في العام الخامس من تولِّيه العرش في خرطوش الملكي باسم «نفر نفرو آتون».
وكذا ظهرت بجانبه في نقوش ورسوم نداً وشريكا له في الحكم، والحرب، حد تصويرها على العجلة الحربية وهي تمسك صولجان الحكم، وهي تؤدب الأعداء أيضا، وتشاركه حصد الأسرى الأجانب، وتقاسمه وبناتهما إرسال الهدايا إلى الشعب. وكان حب اخناتون الأسطوري لها سبب ارتقائها تلك المكانة.
وأكثر ما يلفت الأنظار عادة إلى شكل اخناتون، هيئته الأنثوية بنصفه الأسفل، فتبدو بطنه وأفخاذه سمينة في اختلال نسبٍ واضح إزاء نحافة نصفه الأعلى، ومثله تبدو أجساد زوجته وبناتهما، وإن كان ذلك يبدو منطقيا لدى الإناث!
وذهب علماء إلى أن أنوثة أجسادهم تلك تعود لمشكلة بالغدد الصماء, واختلفت الآراء أكثر حول رؤوسهم الممتدة إلى الخلف، ويرجعه بعض العلماء إلى مرض تسبب بنمو عظام الرأس إلى الخلف، وربما كان ذلك سبب صناعة التاج الفريد للملكة نفرتيتي لتغطية تمدد رأسها. أما السمنة المفرطة لنصفهم الأسفل فأرجعها البعض لخلل في الجينات لدى اخناتون وزوجته لقرابتهما، انتقل إلى بناتهما السِتْ، ما أدى لفرط أنوثة لديهن. وقال غيرهم أنه عانى مظهر الخنوثة لارتفاع هرمونات الأنوثة. وفسره آخرون بجمعه الأنوثة والذكورة كونه ممثلا للإنسان، وطاقة الحياة كحابي إله النيل.
حكم اخناتون البلاد 17عاما، ساءت خلالها الأحوال اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، لاهتمامه بنشر معتقده الجديد الذي اصطدم بثقافات موروثة راسخة. ما تسبب بثورات متفرقة، وتمرد كثير من حكام المناطق البعيدة عليه.
مات في الثانیة والثلاثین، ولم يعثر على موميائه إلى الآن، وتم العبث بمختلف أماكنه ومزاراته المقدسة، وتم إغلاقها، وصودرت الممتلكات الموقوفة على القرابين والمعابد، ومحو كل ما يتعلق به بأوامر كهنة «آمون». وعادت عبادة «آمون» والآلهة السابقة، وفرضها الكهنة على «توت عنخ آمون» الملك الشاب الضعيف زوج ابنة «اخناتون»، كما حرّموا فنون النحت والتلوين التي أطلقها اخناتون، ولم يظهر اسمه ثانية في قوائم الملوك المسجلة فوق الآثار، واعتُبر سقوط نظامه إعادة لنظام العدالة (ماعت) وإقصاء للظلم وفق رؤيتهم، وظلّوا يلعنون ذكراه، وإذا اضطروا لذكر اسمه في وثائق رسمية كانوا يكتفون بوصفه بـ «مجرم أخيت آتون»، كما ذكر «هنري برستد» في كتابه «فجر الضمير».
ولم نُفلح جهود كهنة آمون في محو تاريخ اخناتون الذي أكتشف في العصر الحديث، واشتهرت تفاصيل ثورته، ومكانة عائلته العالية في دولته وحياته الاجتماعية، حيث ظهرت في مناظر لم تعتدها مصر القديمة سابقا، فقد تمتعت نفرتيتي بمكانة «كاهنة تقديم القرابين للإله آتون» الذى كان المعبود الأكثر شعبية للمصريين خلال خمس سنوات فقط من حكم اخناتون. ثار خلالها على عبادة أُوزيريس، الديانة السائدة لقرون ممتدة، وهدم أسطورة إيزيس وأُوزوريس، وزعزع عقيدة البعث التي آمن بها القدماء، ودوّنُوها في البرديات وجمعوها في «كتاب الموتى».
ومن يتأمل دعوة التوحيد الذي نادى بها اخناتون، وبحثه عن خالق الكون الحقيقي! سيكتشف فلسفته المخالفة لما سبقه، التي جعلت الفن في عهده أكثر واقعية، وعُرف بـ «فن العمارنة» نسبة لتل العمارنة. مقر عبادة آتون وحاضرة اخناتون.
وتثبت النقوش أن اخناتون علّم شعبه جمال الإيمان بعقيدة آتون الجديدة، ونقشت مقابر تل العمارنة بنصوص شاعرية غير مسبوقة، منها الأنشودة التي رددها اخناتون بنفسه، ومنقوشة في مقبرة «آي»، ويقول فيها: «يا آتون. أنت الوحيد. لكن فيك قوة حياة بلا نهاية، بفضلها تبعث الحياة في كل المخلوقات، وعندما تُجلب الحياة بكمالك إلى قلوب الناس، فالحياة تُولد في الواقع».
وأضفى بدعوته أجلّ المعاني على آتون، فهو «أول اتصال بين الانسان والروح الطيبة التي تنشر الحب بين الجميع» دون نظر للون أو نوع، وهو «التوحيد الذي يضفي الجمال على الشكل»، و«سيد الحب»، و«سيد الأقدار»، و«صاحب التدابير»، و«مسبب الأحداث»، ومن يضع آتون في قلبه لا يعاني الفقر، ولن يقول «آه. ليس عندي»!
وتوصّل إلى أن «آتون» لا يمكن لمسه، ولا رؤيته، لكنه موجود في كل مكان، فهو أب وأم لكل البشر في وقت واحد، ويظهر في أشعة الشمس التي تتخلل كل شيء، وهو «القوى الخفية خلف الشمس» والنشاط الحيوي الذي يصلنا عبر حرارة وأشعة الشمس فتقوي كل شيء وتُنمّيه!
وليس لآتون هيئة آدمية، ولا يمكن أن تنحت له التماثيل، فهو معنى رُوحي، تكمن فيه العدالة والخير، والحب والسعادة المطلقة، وكل ما هو سعيد على الأرض جزء من طبيعته. فالحب، والاستقرار، والمتعة، والفاكهة، والزهار، وجمال الطبيعة، وشقشقة الطيور كلها صدى لطبيعة آتون.
وتحمّست نفرتيتي للديانة الجديدة، وساندت زوجها بقوة في دعوته وثورته، وظلت مخلصة للعقيدة.
ولم يقبل اخناتون أن يكون راهبا معتزلا، ولا الملك الإله، وحرص على الظهور كإنسان بسيط السلوك أمام الشعب، بالرغم من أنه «الابن المحبوب جدا من آتون». وصوّره الفنانون كزوج وأب مخلص وحنون، وظهر مع زوجته وهما يطلان من شرفة تُشع عليها أشعة آتون، وهما يوزعان قلائد ذهبية على كبار الموظفين، وفي لوحة جميلة يُقبّل إحدى بناته وهي رضيعة، ونفرتيتي تدلل ابنة أخرى على ركبتيها، وثالثة على كتفها تداعب قرطها. وفي مشهد آخر يتناول قطعة لحم، وزوجته تتناول طائرا مشويا. وصورهما الفنان وألم الفراق يعتصرهما حزنا على موت ابنتيهما «ماكت آتون». وفي لقطات متفرقة يظهر وهو يداعب بناته، ويحيط زوجته بحنانه، وينعتها بـ «سيدة قلبي»! ويخاطبها بكلام أجمل وأسبق من كل قصص الحب الشهيرة بقوله: «لست الوحيدة التي خلقها الإله في الدنيا. لكنك الوحيدة التي خلقها الإله في قلبي».
وهي بدورها ساندته في إصلاحاته الدينية والاجتماعية، وانتقلت معه إلى «أخيت آتون» (تل العمارنة)، وشاركته عبادة الإله «آتون» (قرص الشمس)، وقامت بتغيير اسمها وفقا للعقيدة الجديدة إلى «نفر نفرو آتون» ما يعني «آتون يشرق لأن الجميلة أتت». ويذكر أنها نحتت اسمها داخل خرطوشين متوازيين مثل الملوك.
وأنجبت من أخناتون ست بنات. هن «ميريت آتون» ويعني اسمها «محبوبة آتون»، ويظهر في النقوش أنها ولدت في طيبة قبل انتقالهم إلى «أخت آتون»، وظهرت في النقوش المبكرة مصاحبة لأمها الملكة نفرتيتي في العام الثاني من حكم والدها حين شرع ببناء معبد آتون بالكرنك. و«مكت آتون»، وتُرجح ولادتها في طيبة في العام الرابع من حكم أبيها، حيث ذكرت هي وأختها الكبرى «مريت آتون» في ثلاث من لوحات الحدود التي يرجع تاريخها إلى تلك الفترة، والأرجح أنها تُوفيت في العام الثاني عشر من حكم أبيها. و«عنخ آس إن با آتون» وتعني «حياة آتون»، وهي زوجة «توت عنخ آمون» لاحقا، وولدت نحو العام الثامن من حكم أبيها كما تظهر بنقش من لوحات الحدود المؤرخة بالعام السادس من حكم اخناتون. و«نفرنفرو آتون تاشوي»، ومعنى اسمها «جميلة جميلات آتون الصغرى»، ولا تتوفر عنها معلومات كافية، و«نفرنفرو رع»، ومعناه «جميلة جميلات رع»، و«ستب إن رع» ويعني «المختارة من رع».
ولا توجد أدلة على موعد وفاة نفرتيتي، فالبعض يقول عاشت حتی تولّی «توت عنخ آمون» عرش البلاد بتأييدها، ويرجح البعض أنها ظلّت حيّة إلى وفاة اخناتون، ودفنت بالمقبرة الملكية بالعمارنة.
وبالمقابل ذاع صيتها بأنحاء العالم في عصرنا الحالي بعد اكتشاف تمثالها النصفي المنحوت من الحجر الجيري، الذي يُعدّ واحدا من أروع القطع الفنية في مصر القديمة، ومؤكدا أن نفرتيتي من أجمل نساء مصر عبر التاريخ.
ويُذكر أن عالم المصريات الألماني «لودفيج بورخارت» وفريقه الأثري عثروا على تمثالها النصفي الشهير في 6 ديسمبر 1912 بورشة تحتمس النحات في تل العمارنة، وكان من أهم فنّانيِ عصر العمارنة والملك اخناتون (1353 إلى 1336ق.م).
وتشير تقارير الحفائر إلى إن «لودفيج بورخارت» أدرك الأهمية الفنية والتاريخية لتمثال نفرتيتى، فقام بتسريبه إلى منزله في الزمالك، واستخدم التزوير ليتمكن من تهريبه إلى ألمانيا عام 1913، حيث كتب في «بيان البروتوكول» و«مذكرة الحفائر الخاصة باقتسام الآثار المتشابهة» أن «تمثال رأس نفرتيتي مصنوع من الجبس، ويعود لأميرة ملكية، وكان يعرف جيدًا أن التمثال للملكة نفرتيتي، ومصنوع من الحجر الجيري، وعمد للتدليس لتستحوذ ألمانيا على التمثال، وحرصا على إكمال جريمته قام بإخفاء رأس نفرتيتي تحت قطع فخار مُهشّمة أرسلها حينها إلى برلين بحجة ترميمها، بالمخالفة لقانون اقتسام الآثار المتشابهة والذي يحظر خروج القطع الفريدة. وما يزال رأس نفرتيتي وحده يجتذب أكثر من مليون زائر سنويا.
ولنفرتيتي تمثال رأس آخر من الكوارتز الأحمر بالمتحف المصري، لا يقل جمالا عن مثيله في برلين. لكنه لا يشبهه في الشكل، ولا الخامة، ولا حظّه من الشهرة.
وفي أواخر القرن التاسع عشر، عثر عالم الآثار الفرنسي «فيكتور لوريت» على أحد الأقبية، وأحدث فتحة بجدار فوجد سردابا، عثر فيه على ثلاثة مومياوات، واحدة لرجل وامرأتان. ولم تنل تلك المومياوات أي اهتمام وقتها، وتم تصويرهن لاحقا عام 1907، ثم ابتلعهن النسيان.
إلى عام 2002، حين قامت الباحثة «جوان فليتشر» خبيرة المومياوات بجامعة نيويورك بفحص رفات المومياء الشابة بالأشعة السينية، لتؤكد أنها مومياء الملكة نفرتيتي «الجميلة التي أقبلت»، وقالت إنه أروع اكتشاف في حياتها. وأشارت إلى أنها تمتعت بأفضل نوع من التحنيط، وأن صفاتها التشريحية تطابق الملكة نفرتيتيّ، خاصة الرقبة والكتفين والوجه. وأضافت أن المومياء كانت حليقة الرأس ومغطاة بشعر مستعار خاص. وأظهر الفحص آثار حزام جلدي مطبوعة على جبين المومياء. وآثار قِرط في أذنها اليسرى شوهد في بعض صور الملكة. وبقرب المومياء عُثر على يدها المكسورة ممسكة بالصولجان، وهذه من سمات ملوك مصر القديمة.
وقال البعض إن المومياء التي فحصتها فليتشر لفتاة عمرها 16إلى20 سنة، ونفرتيتي أكبر سناً. وقام علماء مصريات بفحص مومياء السيدة الثانية التي عثر عليها بقبر اخناتون. وبدت لهم أوجه تشابه مع نفرتيتي، لكن تبقى الكلمة الفاصلة للحمض النووي، الذي ساعد من قبل في تحديد هوية اخناتون، وجدة توت عنخ آمون.
وحين طلبت مصر رسمياً استرداد رأس نفرتيتي، رفضت ألمانيا باسم «بيرند نويمان» وزير الدولة للشئون الثقافية ردّه أو إعارته إلى بلده بحُجة الحفاظ على التمثال.