جميلة ابو غليون تكتب الرسالة الأولى

السكة – المحطة الثقافية  – كتبت جميله ابو غليون

الرسالة الأولى..

عزيزي فينسنت..

 إن الزّمنَ الفاصلَ بيننا، هو ما يجعَلُني أشعر بالحنين إليك، رغمَ أنّي لم أعرفك، ورغمَ موتك قبلَ ولادتي.

عزيزي.. أعلمُ حجمَ السّنينِ الفاصلةِ بيننا، أدركُ حجمَ عتمةِ قبرك، أدرك كمَّ النّور الذي يحيط بي، أدرك كمَّ الأفكار العالقةِ في رأسي، واختلافَ الثّقافاتِ بيننا، لكنّي لا أرى أيّ اختلاف أدبيّ أو فنّيّ، أرى أنّ الفنَّ انعكاسٌ للرّوح لما يجري خلفَ هذا الهندامِ. أنا أتميّز هنا في كيفيّة التّعبير عنّي، في كيفيّة قراءة مشاعري.

عزيزي فينسنت.. هل تعلمُ مدى البعد بيننا، ومدى تقاربنا بهذه الرسائل؟ أنني أخاطب رمادك. 

لا أعلم قساوةَ المشهدِ الذي كان يحيط بي، ولا علمَ لي بمقياسِ جماله، لكنّي أواجه العتمة بالشُّروق والخوف بالأمل، أواجه البؤسَ بالرّضا وأقضي جُلّ وقتي بالتّسبيح.

عزيزي.. أكره الأصفرَ؛ وهو يلوّن فرشاتي، أكره ذبول المشاعر على أغصان القلب، أكره أجزائي المتناثرة، التي يأخذها النّاس على محمل الجدِّ؛ يحملونها معهم، يحتفظون بها طويلًا ويقتاتون عليها في كل وقت.

عزيزي.. أكره ذاك الصُّداع الذي يصيبني كثيرًا هذه الأيّام، والدّموع التي تتراقص في جفنيّ، أشعر أن أحدًا يربطني من دماغي، يشدّني من أفكاري، كما تشدّ الطّفلة شعر دميتها. التّفكير في هذا الكون يأسرني، أصبحت أفكاري مثلَ رداءٍ عالق على أغصان شجرة، يطيرُ مع الهواء، يتمزّق إربًا إربًا. 

عزيزي.. إنّي أواجه العالمَ الكبير بالوجع، وأطلّ من ثقوبي الكبيرة على الألوان والعتمة. ألوان تلاحقني، أشجار وزهور وأشخاص لا وقتَ لديّ لتناولهم!

عزيزي.. هل تعلم أن التفكير في ملكوت الله عبادة؟ هل تعلم إنّ الله قريبٌ منك -أقرب من حبل الوريد، وإنّك ترى عظمة الله في نفسك، وفي كلّ شيءٍ حولك؟

 عزيزي.. أنا أستشعر عظمتَه بشروقٍ مُلهمٍ صباحًا، برطوبة الكون فجرًا، في ظلام الليل الدَّامس، في عيون النّجوم وهي تطالع وجهي الشَّاحب، أرى قدرته بالزّلازل والبراكين، وبالحمم الـمُنصهرة التي تبوح بغضبه، بالأمواج العاتية التي تتآكل الشّطآنُ تحتَها، بالسّيول الجارفة التي تبتلع كلّ شي، أراه هادئًا في تمايل غصن زهرة، مع نسمة هواء منعشةٍ ليلةَ صيف،أرى النّجوم معلقة في كبد السّماء تخبرك بالكثير،وأرى الليل بكافّة أحزانه يهمس لك إنَّ الصُّبحَ آتٍ لا محالة.

عزيزي.. نحن أصحاب الحسّ الأدبيّ أو الفنيّ، نحزن لأننا لا نملك السّلام الذي نمنحه للآخرين ولا الجمال أيضاً، حتى الحزن بكل حالاته يا عزيزي جميلٌ.

عزيزي.. لعنةُ عبَّاد الشّمْس ما زالت تلاحِقُني، تجفّ فرحتي كلّما هربت نحو حقولك، زهور وأحزان تنعق في أذني. إنّي ألعن الأفكار التي تهرب من خيالاتي، تركض كَـالخيول لا تعرف وجهتها. صخورٌ وجبال تحيط بها، تسمع صوت حوافرها وهي تضرب الأرض، ولا تستطيع القفزَ من جمجمتي، أو الخروج من أناملي، تتقلّص تغيّر شكلها وحجمها، تعوم في الحروف والألوان، لا تتوقف عن الرّكض أو الّلهاث، أواجه فيها بؤس الظروف.

 عزيزي.. لا أستطيع جمْعَ خراف الوقت، التي تتناثر فوق الجبال، ولا أدرك كميّة السّحُبِ العالقةِ في روحي، لم أعد قادراً على الصّمود، لن أستطيعَ منع الدّمع المحتبس في الجفون، ذَبُلَ الأصفر وهو ينتظر دوره، ذَبُلَ وهو يحلم بالرّبيـع في بداية تشرين حزين.

ذبل هذا الحلم المتأخّر عن موعد إقلاعه، أخاف عليه من التحطّم، أخاف عليه من الهبوط الاضطراريّ، أخاف أن يضيّع وجهته. أقلعَ بعيدًا عنّي، لم يعُد بمقدوري حراسته، ألوّح له من بعيدٍ، وأدعو الله أن يحفظه.

عزيزي.. هكذا هو الفنُّ، يفعل بنا الكثيرَ. يأخذنا بانبهارِ الحرفِ إلى سحر اللون. كيف أغلق جفوني؟ وأنا الهاربة من لوحة مليئة بالحياة، إلى عالم قاسٍ مليء بالقتل والدّمار.

عزيزي.. أنت لم تواكب عصرَ الفتك والقتل، لم ترَ الوحش الحديدي الذي يطير فوق رأسك، ضاربًا كل أمنياتِك عرض الحائط، لم تسمع بشيء اسمه الإنترنت، يذوّب المسافات ويقرّب البعيد، لم ترَ شخصًا يُحدّث نفسَه ويمسك قطعةً حديد بِيَده، أو يمتطي صندوقًا ذا عجلاتٍ دائريّة. أنت لم تعشْ هنا، لترى كيف تغيّر لون عبَّاد الشّمْس، كيف تناثرت الغيوم الزّرقاء في الأفق، كيف أصبحت ليلةُ النّجوم، في جوٍّ تسوده عوادم السيّارات، لم تعش لترى كيف أصبح لباسنا غريباً غير مفهوم، حياتنا أصبحت أسهل بوجود الوحوش السيّارة والطيّارة والناطقة والمتفاعلة، حتى السّبّورةُ تغيّرت، لوحةُ الرّسمِ والفرشاة تغيّر كلٌّ منهما كذلك.

عزيزي.. هل يحقُّ لنا الحديثَ عن بؤس الحياة؟ وعن أنها أصبحت لا تُطاق بوجود هذه الرفاهيّة؟

عزيزي.. انت لم تحارب البؤس فقط.. بل حاربت القبح أيضًا. نحن نمنح الجمالَ، بينما يعجز الآخرون عن تذوقه! الطبيعة جميلة، الحياة ورديّة أكثر ممّا يجب، الشّمْس الصّفراء تسطع في كبد الحروف، تشرق من كلماتنا. لا أعلم لماذا هذا البؤس كلّه، ونحن مَن نملك الفرشاةَ والحرفَ، ونُسقِطُ انطباعاتِنا الّليلكيّة، إنّي لا أتعفّن، إنّي أزهر ويزهر داخلي الأمل.

عزيزي.. لم أكن أرغب بوجود الكثيرين في حياتي، لكن فرضتهم عليّ الظروف، أقحمتهم في قلبي، لو كان الخيار لي، لاخترت أناسًا جيّدينَ، هؤلاء الأوغاد سمّموا ألواني، أصابوني بسهامهم الحادّة، تلطّخت فرشاتي بالأحمر، ما زلت أقطفُ الأملَ، ثمّ أصعد على حطام روحي وألوّح للحياة.

عزيزي.. إنّ هواجسي، وإسقاطاتي الذاتيّة وحديث نفسي، وتقاربنا الحسّي، هو ما يجعلني أقابل الأضداد بالأضداد، وأقاوم الحزنَ بالفرح، وهو أيضًا ما يجعلني أشعر برغبة الحديث إليك.

 عزيزي.. كان ظلك يحوم بالقرب من الرُّوح، لكن ورد الحرف يابس، رأيتك من بعيد، كانت الفوارق تكبر، وأنت متجهم في قبرك، مستلقٍ على ظهرك، متقوقع على ذاتك، يضمك التراب برفق، بينما ألهث للوصول إلى قبر يحتويني، يضمني بخوف وحرارة، أحاول أن أطلق رصاص الحروف ومباغتة المشاعر، واغتيال الكلمات فجأة، الرسائل الغبية لا توصل الإحساس، يقتلها الجمود، كان هنالك دمعتان، وعنقود أوشك أن يسقط فوقهما، هنالك كلمة حارة، ضمتني بخوف، وأعطتني الأمان في بحر التلاشي، كان الليل يرخي جفنيه على أوراقي ويخيفني  لكنني حلمت ببؤسك ذات ليلة ولن أتوقف عن الحديث إليك..

هلّا سمحت لي بالكتابة إليك كلّما ضاقت بي الأوجاع؟ 

 

 

                                                                                                                        

                                                                                                                 جميلة أبو غليون

One Reply to “جميلة ابو غليون تكتب الرسالة الأولى”

اترك تعليقا