سعود قبيلات يكتب : حيّ في البحر المَيِّت
- Alsekeh Editor
- 8 فبراير، 2025
- المحطة الثقافية
- 0 Comments
السكة – المحطة الثقافية – كتب سعود قبيلات
تمرُّ، اليوم 8 شباط، ذكرى رحيل صديقنا الغالي، الأديب الأردنيّ الكبير مؤنس الرَّزاز. وقد كتبتُ العديدَ من الموضوعات والقصص، عن مؤنس، بعد رحيله، وهي منشورة في أكثر مِنْ كتاب مِنْ كُتُبي: «كهفي»، و«الطَّيران على عصا مكنسة»، و«مشيتُ على ضفافهم»، و«بيت قديم متعدِّد الطَّوابق»؛ كما أنَّه كان إحدى الشَّخصيَّات القصصيَّة في كتابي القصصيّ «بعد خراب الحافلة».
وتالياً، قصَّتان مِنْ كتابي «كهفي»، وهما مهداتان إلى اسم مؤنس الرَّزَّاز:
عصابة
كنَّا خمسة نجلس في المقهى إلى طاولةٍ واحدة ونتبادلُ حديثاً طويلاً وممتعاً. غير أنَّ أحدَنا، وكان محورَ الجلسة طوال الوقت، غفا فجأة.
ظننَّا أنَّها استراحةٌ بين شوطين من الحديث؛ فرحنا نتسلَّى بالنَّظر إلى بعضنا البعض، أو إلى الآخرين مِنْ حولِنا، أو إلى رفيقِنا النائمِ نفسِه.
غير أنَّ نومتَه طالت أكثرَ ممَّا توقَّعنا؛ فرحنا نحاول إيقاظَه؛ لكن، مهما فعلنا، لم ننجح. فأصابنا الهلع؛ وعندئذٍ، رحنا نحاول متابعةَ حديثِنا الَّذي انقطع، كأنَّ شيئاً لم يحدث؛ غير أنَّنا، أيضاً، لم ننجح؛ فرفيقُنا الَّذي غفا.. رفيقُنا الَّذي كان مؤنساً جدّاً فيما مضى ولم يعد كذلك.. يُصرُّ على البقاء بيننا!
تحت غطاء البيانو
قادتني قدماي إلى بيتِه، مِنْ دون أنْ أفطن، وفوجئتُ به، كما في الزَّمن القديم، جالساً في الشُّرفة يعبث بشاربيه الكثّين. وعندما رآني، هبَّ واقفاً ليقول لي بقلق: أُصدقني القول؛ ما الَّذي جرى لي؟ إنَّني أبحث عنِّي، طوال الوقت، فلا أجدني!
خشيت عليه مِنْ قوَّة الصَّدمة إذا أطلعتُه على جليَّة الأمر، فالتزمتُ الصَّمت. فما كان منه إلاّ أن استدارَ ودخل غرفة الجلوس، فدخلتُ في إثره؛ وعندئذٍ، وجدته يقف في وسـط الغرفة ويتلفَّتُ حوله، إلى أنْ رأى البيانو عند الجدار الواقع على يسار الباب، فمضى باتِّجاهه، ومضيتُ في إثره، ثمَّ وقفتُ أمام مفاتيح البيانو، ورحتُ أنقرها بصورةٍ عشوائيَّة؛ غير أنَّ صوتَها جاء خافتاً ومخنوقاً. نظر إليَّ برعب، ومدَّ يده باتِّجاه غطاء صندوق البيانو، عندئذٍ خشيتُ مِنْ أنَّه يريد فتحه، فأمسكتُ يده ورددتها برفق، كي لا يرى جسده المطفأ محشوراً هناك.
خَلَلٌ فِضِّيٌّ في عمَّان
كان مؤنس حالة إنسانيَّة وأدبيَّة مميَّزة في عمَّان وفي الأردن عموماً؛ كان إنساناً مرهفاً جدَّاً، وأديباً كبيراً مبدعاً، ومثقَّفاً عميقاً ملتزماً.
وفي الذِّكرى السَّادسة لرحيله، كتبت زميلتنا وصديقتنا، الشَّاعرة المتألِّقة الدّكتورة مها العتوم، قصيدةً بعنوان «خَلَلٌ فِضِّيٌّ في عمَّان»، أهدتها إلى مؤنس.
ورغم أنَّ الدَّكتورة مها لم تعرف مؤنس مِنْ قُرب، إلَّا أنَّ قصيدتها الجميلة عبَّرت عنه بدقَّة وعمق. وأقتطفُ منها المقاطعَ التَّالية:
«هَرَبَ الضَّوءُ إلى مملكة الضَّوء
ولن يفتعلَ حرائقَ بعد اليوم،
ليَهدي أو ليُضِلَّ يتامى
خَلدَ الجزئيُّ إلى الكُلِّيُّ
فطاب مقاما
لن يجزع بعد اليوم
ولن يحتاج إلى كأسٍ أُخرى
ليُصارعَ وهمَ الأولى
دخل الصُّوفيُّ بثُقب الإبرة
كي يكتمل
وكي يمتحنَ الجُبَّة
إنْ وسعَتْ فكرَتَه
صار المعنى والمعنِيُّ
فلا أدويةَ هناك
ولا أصباغ
وعاد حقيقيَّاً وغُلاما»
(…)
«خَلَلٌ فِضِّيٌّ
لن يتكرَّر في عمَّان
خَلَلٌ في لون الورد
وفي عدد النَّجمات
وفي لغةٍ تتقاسمُ حلمَ الطِّفل
وأوهام الفقراء المنبوذين
العاديين
الخَلَلٌ ازداد وضوحاً
زاد قُروحاً
شُرِخَ إلى آخره
فانتبَهَ القدِّيسُ الشَّيطان
وسقطت منه الوردةُ والنَّجمات
وسقطت فيه الوردةُ والنَّجمات
وسالَ كلاما
خَلَلٌ فِضِّيٌّ
في هدأة عمَّان
اخترق بإزميل الآثام العتمة،
سرق النَّار، وأشعل فيها الحرف
وانقسم
إلى نصفين:
الأوَّلُ مُحتلٌّ بالوطن وبالأحلام
والثَّاني
مُختلٌّ بالوطن وبالأحلام
وظَلَّ يُقاوِمُ نصفاً بالنِّصفِ الآخر
حتَّى أدركه التَّعبُ
فناما
اقعُدْ في ثُقب الإبرة
لا تبرحُه
وكُنْ مِنْ أوَّلِ هذا الضَّوء
إلى آخره
اتَّصِلْ
انفصِلْ
افعلْ ما شئتَ
فلن تُسقِطُكَ العتمةُ بعد الآن
وردَّ الجمرَ بها وبنا
برداً وسلاما».
مؤنس الرَّزَّاز علامة فارقة في تاريخ الأدب الأردنيّ، وسيظلُّ مقيماً في قلوب أصدقائه ومُحبِّيه إلى آخر رمقٍ في حياة كُلٍّ منهم.