“عن رشاد أبو شاور، بأثر رجعي”

السكة – المحطة الثقافية – كتب حسن خضر

حالت دون الكتابة عن رشاد أبو شاور، في يوم رحيله، أخبار ومشاهد المسلخ البشري في غزة. أشعر، أحياناً، بأن الاهتمام بشيء آخر يمثل خذلاناً لمليونين من بني البشر. لذا، يتجلى حضورهم الطاغي، على مدار الساعة، كتكفير عن العجز. ف”لا خيل عندك تهديها، ولا مال”، كما قال أبو الطيب، وليس في النطق، من سوء الحظ، ما يسعد أو يسعف.

أعود إلى رشاد، الذي لم تنج صداقتي معه من منعطفات تبرر القطيعة، ولكنها تصلح دليلاً بأثر رجعي، وحين وقوعها، على ما أبقاها حيّة. وهذا كله يمكن اختزاله في كلمتين اثنتين هما “طيبة القلب”. كان رشاد أبو شاور طيّب القلب، فعلاً، لا يحمل ضغينة يمكن أن تدوم، وصادقاً إلى حد الفزع من احتمال، مجرّد احتمال، أن ينتاب الشك شيئاً من قناعاته الراسخة.

ولعل في هذا النوع من الصدق ما يفسّر اثنين من المنعطفات. ففي أوائل العام 1991، حشد الأميركيون ما يزيد عن نصف مليون من جنودهم، إضافة إلى حلفائهم العرب، في منطقة حفر الباطن السعودية، التي جعلوا منها قاعدة للانقضاض على القوات العراقية، فيما سيعرف لاحقاً بحرب تحرير الكويت، أو حرب الخليج الثانية، التي سمّاها صدام حسين أم المعارك.

لم تكن ثمة هواتف ذاكية، وإنترنت، في تلك الأيام. وكان صاحب الحظ السعيد من يتمكن من مشاهدة السي إن إن الأميركية. لذا، كانت مصادرنا قليلة، وعلى رأسها الإذاعة، إضافة إلى ما نتناقل في لقاءات يومية من تحليلات وأخبار. كنّا نلتقي يومياً، بحكم الزمالة والاهتمامات المشتركة، في مكاتب دائرة الثقافة، في المنزه السادس، في تونس العاصمة.

ذكرتُ قبل بدء الهجوم البري، بأيام قليلة، أن العراق لا يملك فرصة حقيقية للفوز في حرب مع الأميركيين. فغضب رشاد، أفزعه احتمال الهزيمة. لم يتهمني بالانهزامية، كما يحدث في حالات كهذه من جانب أشخاص أعيتهم الحيلة، بل كف عن الكلام معي، وارتسمت على وجهه علامات خيبة الأمل. والمهم، ومن سوء الحظ، أن نتيجة الحرب، التي لم تزد مدتها عن ستة أسابيع انتهت بهزيمة صدّام، وتحرير الكويت، وأثبتت صواب “نبوءتي” السوداء. وقد عادت المياه إلى مجاريها قبل نهاية الحرب. لم ألجأ إلى “ألم أقل لكَ”، ولم يعتذر، بل ارتسمت على وجهه علامات حسرة عميقة.

وجدنا أنفسنا، بعد هذه الحادثة بعامين إزاء منعطف جديد، عندما تناولت في حلقة دراسية، نُظّمت في مناسبة بلوغه الخمسين، حواراً دار بين شخصين في رواية لم أعد أذكرها الآن، ربما كانت “العشّاق”. يقول “المناضل” لحبيبته في الرواية ما معناه: “سنتزوج، وننجب”، ترد الحبيبة: “ولكن ماذا لو لم ننجب”، فيرد: “مستحيل، هذه خيانة وطنية”.

كانت مشكلة غالب هلسا مع روايات رشاد أن أبطاله “يشربون الشاي” دائماً. يقول غالب بلهجته المصرية البديعة: “ما فيش صفحة مافيهاش ناس بيشربوا شاي”. ولكنني كنت أرى المشكلة في مكان آخر، في غواية اليقين، وما يُحرّض عليها.

لذا، تناولت الحوار سابق الذكر لا من زاوية تحليل اليقين نفسه، بل لكونه حاجة وضرورة يصعب الاستغناء عنها لدى الكثيرين، نتيجة ما تحقق من إشباع، أو تحمي من قلق. لم يكن رشاد اضافة الى اخرين كتبوا شعراً وروايات، وصعدوا في بيئة، ومؤسسات منظمة التحرير في السبعينيات، وما تلاها، من جيل غير جيل غساني كنفاني، بحساب السنين. ومع ذلك، كان كنفاني أكثر كفاءة، ورائد النص المؤسس لما سيعرف بأدب المقاومة. لذا، أعادوا إنتاج النص المُؤسس بكفاءة أقل، ونزعة تبشيرية أكبر.

لم يعجب كلامي رشاد، وارتسمت على وجهه علامات خيبة الأمل وآلامها. ومن حسن الحظ أنه استدرك بعد وقت قصير.
وبعدما فرقّتنا الأيام أيدي سبأ، حرصت على الاتصال برشاد، من وقت إلى آخر. لم تفسد الرؤى المختلفة، والذائقة، والتحيّزات السياسية (وبعضها كان كارثياً) للود قضية بالمعنى الإنساني. وهذا ما لا يمكن قياسه إلا بمسطرة التقدير لصفات الصدق وطيبة القلب. الصفات التي لم تكن، بالضرورة، مؤهلات كافية للعيش في البيئة المضطربة لحقلي السياسة والثقافة الفلسطينيين، وكلاهما لا يشكو ندرة النصّابين، وبنات آوى، ولا ندرة الصادقين، بطبيعة الحال.

وقد خطرت لي في يوم رحيله فكرة لآرثر كوستلر يميّز فيها بين الثوري والمتمرّد. فالأوّل يقبض على قناعاته، ولا يتغيّر. والثاني لا يكف عن القلق وطرح الأسئلة. كان رشاد، بهذا المعنى، ثورياً أنجبته بيئة فلسطينيين قرويين صاروا لاجئين، في أواسط الستينيات، أي في زمن التحاقهم بقاطرة التاريخ، وزمن تشكّل وعيه وتحيّزاته السياسية، وذائقته الأدبية. وهي بيئة شائكة تماماً، يمكن العثور فيها على نماذج إنسانية شديدة الغنى والتنوّع، ومنها العامل في الحقل الثقافي، والثوري على طريقته، الذي كانه رشاد أبو شاور.

 

اترك تعليقا