السكة – المحطة الفلسطينية
في دير دبوان شرق رام الله، نفّذ المستوطنون جريمة مكتملة الأركان: سرقة 150 رأس غنم، وثلاثة جرّارات زراعية، وخسائر تُقدّر بنحو 400 ألف شيكل. مشهد بات مألوفًا في الضفة الغربية، حيث يُنهب كل شيء: الأرض، والمواشي، والهواء، ولا أحد يرفّ له جفن.
لكن المفاجأة هذه المرة لم تكن في عدد الأغنام المسروقة، ولا في وقاحة المستوطنين، بل في سرعة وصول كاميرات إعلام السلطة. فجأة، تذكّر الإعلام الرسمي أن في الضفة الغربية مزارعين، وأن هناك اعتداءات، وأن “الاستيطان خطر”!
كاميرات جاهزة، مراسلون مستنفرون، تقرير ميداني كامل… وكأن النشرة كانت تنتظر الاسم لا الجريمة.
السبب؟
صاحب المزرعة ليس راعيًا عاديًا منسية قضيته في الأغوار أو مسافر يطا، بل اللواء محمد داود غنام (أبو داود)، المدير السابق لمخابرات الخليل، وشقيق محافظة رام الله والبيرة ليلى غنام. هنا فقط، قرر الإعلام أن يخلع صمته، وأن “ينتصر للأرض”.
أما آلاف المزارعين والرعاة الذين تُحرق محاصيلهم يوميًا، وتُسرق أغنامهم تحت حماية الجيش، فهؤلاء لا يستحقون تقريرًا، ولا حتى خبرًا عاجلًا في الشريط الإخباري. لا لقب، لا منصب، لا قرابة… لا كاميرا.
إعلام انتقائي… واستيطان بلا شهود
هذه الحادثة ليست استثناءً، بل مرآة فاضحة لسياسة إعلامية ترى الاعتداء حين يكون الضحية “من العائلة”، وتتعامى حين يكون فلسطينيًا عاديًا بلا واسطة سياسية أو أمنية.
في الوقت الذي أقام فيه المستوطنون أكثر من 114 بؤرة استيطانية منذ بدء حرب الإبادة على غزة، كان إعلام السلطة مشغولًا بتغطية المؤتمرات واللقاءات البروتوكولية، أو بإعادة تدوير بيانات لا تغيّر شيئًا على الأرض.
وخلال عامين فقط، شرعن الاحتلال أكثر من 30 بؤرة استيطانية، وأعاد فتح ملف المستوطنات المخلاة شمال الضفة، ووسّع “الخط الأزرق”، وصادق على مدن استيطانية كاملة شرقي القدس… وكل ذلك مرّ بهدوء مريب، بلا عدسات، بلا تقارير، بلا غضب رسمي يُذكر.
في 2023 وحده، تمّت شرعنة 11 بؤرة استيطانية، بعضها على مئات الدونمات، تمهيدًا لتحويلها إلى مستوطنات رسمية. لكن يبدو أن الأرض، حين تُسرق بالتقسيط، لا تستحق البث المباشر.
الضوء حيث النفوذ… والظلام حيث الحقيقة
الرسالة واضحة:
الاستيطان ليس أولوية إعلامية إلا إذا أصاب “شخصية اعتبارية”. أما حين يلتهم القرى بصمت، ويقضم الجبال، ويهجّر الرعاة، فذلك مجرد “تفصيل” لا يليق بالنشرات.
إعلام السلطة لا يغيب عن المشهد صدفة، بل يغيب اختيارًا. يسلّط الضوء حين يُطلب منه، ويطفئه حين تصبح الحقيقة محرجة. وهكذا، يستمر الاستيطان في التمدد، لا لأن الاحتلال قوي فقط، بل لأن من يفترض بهم أن يفضحوه، اختاروا الصمت… أو الانتقاء.
في دير دبوان، سُرقت الأغنام.
وفي الضفة كلها، تُسرق الأرض… بصمت رسمي مُطبق

