السكة – المقالات – ثامر سباعنة
بعد أكثر من عامين من الحرب المدمرة على غزة، يدخل وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ وسط مشهد معقد ومليء بالدلالات. فبين أنقاض البيوت المهدمة ودماء الشهداء التي لم تجف بعد، يخرج الشعب الفلسطيني مرفوع الرأس، شامخ الإرادة، مؤكداً أنه لم يُهزَم رغم حجم الدمار والمعاناة.
الاحتلال، الذي أعلن منذ بداية الحرب عن أهدافه الكبيرة من “تدمير المقاومة” و“القضاء على تهديد غزة”، خرج في نهاية المطاف بأقلّ مما وعد به جمهوره. الهدف الوحيد الذي استطاع تحقيقه هو الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين، بينما بقيت المقاومة قائمة، والشعب الفلسطيني صامداً على أرضه، رافضاً أي مشروع تهجير أو اقتلاع. لقد فشلت آلة الحرب في كسر إرادة الفلسطيني، بل زادته تمسكاً بالأرض والهوية، وأعاد إلى العالم حقيقة أن هذه الأرض لا تُترك ولا تُباع.
وعلى الرغم من حجم التضحيات، أعادت الحربُ القضية الفلسطينية إلى الواجهة الدولية. فغزة أصبحت مرّة أخرى عنواناً للعدالة والحرية، وأصبح الاحتلال تحت مجهر العالم، بعد أن سقطت صورته كـ“دولة ديمقراطية” وبات يُرى كقوة احتلال تمارس الإبادة والتجويع بحق المدنيين. كما شهدت العواصم الأوروبية والعربية تظاهرات غير مسبوقة دعماً لفلسطين، في مشهد يُذكّر ببدايات الانتفاضة الأولى حين كان الشارع العالمي ينبض باسم غزة والقدس.
ورغم القصف العنيف والخسائر الفادحة، أظهرت المقاومة قدرة مدهشة على الصمود، وأثبتت أنها ليست مجرد فصيل مسلح، بل مشروع وطني يعبّر عن ضمير الشعب وحقه في التحرر. فقد واجهت آلة الاحتلال، وواصلت القتال حتى اللحظة الأخيرة، لتفرض معادلة جديدة قوامها أن الأمن لا يتحقق إلا برحيل الاحتلال.
ومن التطورات اللافتة أيضاً، التحرك العربي والإسلامي الرسمي باتجاه دعم الفلسطينيين والمقاومة، وهي خطوة غير مسبوقة بهذا الحجم. فقد بدأت بعض الأنظمة بإعادة النظر في مواقفها السابقة، مدفوعة بضغط شعبي هائل وموجة وعي عربية متجددة ترى في المقاومة عنوان الكرامة العربية والإسلامية.
ومع توقف النار، يبرز الآن تحدي إعادة الإعمار، ليس فقط للبناء المادي، بل لإعادة الحياة والكرامة للناس، ولتوحيد الجهود الفلسطينية في إطار وطني جامع. وتغدو المصالحة الفلسطينية اليوم ضرورة وطنية كبرى، لأنها الطريق الوحيد لإعادة ترتيب البيت الداخلي، ومواجهة التحديات المقبلة بصفّ واحد وصوت واحد.
إن وقف إطلاق النار لا يعني نهاية المعركة، بل بداية مرحلة جديدة من الصمود والبناء والوحدة، مرحلة يؤكد فيها الفلسطيني أنه باقٍ على أرضه، وأن المقاومة لم تُهزم، وأن الحق لا يموت ما دام وراءه شعب لا يركع.

