السكة – محطة المقالات – كتب تأبط شراً
في لحظة لا يعرف المرء إن كانت سخرية القدر أم انقطاعًا تامًا عن الواقع، خرج الرئيس محمود عباس من مقره المكيّف في رام الله ليعلن بسعادةٍ أن “السلطة الفلسطينية سعيدة بوقف شلال الدم في غزة”، وكأنّ الدم الذي أغرق القطاع لعامين كان مجرد تساقط أمطار موسمية.
الرجل الذي غاب عن غزة منذ عقد ونصف، عاد ليطلّ من شاشة القناة 12 العبرية — نعم العبرية — ليصف إعلان دونالد ترامب عن قرب وقف إطلاق النار بأنه “عظيم جدًا”، وكأن المذابح التي شهدها القطاع كانت فيلمًا أميركيًا انتهى أخيرًا بمشهد بطولي من إنتاج البيت الأبيض.
“إصلاحات” بدم بارد
عباس، الذي لم يجرؤ على زيارة مخيم جنين منذ سنوات، بشّر شعبه بخطة “إصلاح شاملة”، تشمل التفاهم مع واشنطن حول رواتب الأسرى — الملف الذي تحوّل من قضية كرامة وطنية إلى بند تفاوضي مع وزارة الخزانة الأميركية.
قالها بطمأنينة: “واشنطن وافقت على الآلية الجديدة”.
هكذا ببساطة، تُدار حياة الأسرى والمحرّرين بـ«آلية مالية» تُرضي المانحين وتُجفف جيوب المناضلين.
أما بقية الإصلاحات في الصحة والتعليم والأمن؟ فقد “بدأ تطبيقها فعليًا” — ربما في نشرات الأخبار فقط، لأن المستشفيات ما زالت بلا دواء، والمدارس بلا أمل، والأمن مشغول بحراسة التنسيق مع الاحتلال أكثر من حماية المواطن.
الزعيم الذي لا يسمع الانفجارات
بينما كانت الطائرات الإسرائيلية تواصل قصف رفح وخان يونس، اختار عباس أن يتحدث عن “السلام والاستقرار بيننا وبين إسرائيل”.
كلمة “بيننا” هنا، كما يبدو، لا تشمل غزة ولا الضفة ولا حتى القدس؛ إنها فقط بين السلطة والاحتلال، في جغرافيا التنسيق المشترك ومصالح البقاء السياسي.
في الوقت الذي تُحرق فيه الأحياء على رؤوس ساكنيها، كان الرئيس يتحدث عن “سلطة يُضرب بها المثل”.
نعم، المثل في ماذا؟ في الغياب؟ في الصمت؟ أم في نجاحها بتحويل القضية الفلسطينية إلى ملف إداري تحت إشراف أميركي؟
شلال من الكلمات… لا يطفئ نارًا
تصريحات عباس الأخيرة ليست زلة لسان، بل تعبير صادق عن واقع سلطة فقدت علاقتها بشعبها، وتحولت من مشروع وطني إلى مكتب علاقات عامة يوزع بيانات “الاستقرار”.
حين يتحدث عن وقف “شلال الدم” وهو لم يرفع هاتفًا ليعزي عائلة شهيد، فإننا لا نرى زعيمًا بل متحدثًا باسم مرحلة انتهت.
خاتمة مرّة
قد يكون شلال الدم توقف في بيانات المقاطعة،
لكن في غزة ما زال الأطفال يُنتشلون من تحت الركام.
وربما لهذا السبب، فإن الفلسطينيين لم يعودوا ينتظرون من عباس أن يُعلن نهاية الحرب،
بل فقط أن يصمت قليلًا… احترامًا لمن ماتوا وهو ينتظرون أن يكون لهم رئيس

